السبت، 21 مايو 2011

المزارعات في قطاع غزة يتشبثن بالأرض في مواجهة الاحتلال والاستغلال المجتمعي



المزارعات في قطاع غزة يتشبثن بالأرض في مواجهة الاحتلال والاستغلال المجتمعي 

كتبت: سامية الزبيدي
ترفض أم عمر مسلم التي تجاوزت الخامسة والخمسين من عمرها عروض الراحة التي يقدمها لها ابناءها السبعة وبناتها الثلاث، وتصر على الخروج مع أبناءها للأرض الزراعية التي يستأجرونها بشكل سنوي، كي تتابع عن قرب كل صغيرة وكبيرة يصنعها أبناءها بكدها وتعبها الذي حصدته طوال أكثر من ثلاثين عاماً.





أم عمر، التي تفتح وعيها على أهمية الأرض في مكان لا يعرف أصحابه سوى الزراعة اسلوبا للحياة والرزق، رفضت حالة الاستكانة للفقر والمرض التي المت بزوجها، وخرجت باصرار شديد للعمل في الزراعة، فكانت تدير بنفسها، وتزرع، وتحصد محاصيل التوت الارضي (الفراولة) في أكثر من 60 دونم على الشريط الحدودي لبلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة.

"كنا نضمن (نستأجر) الأراضي ونزرعها بالفراولة، وكان زوجي وأولادي يساعدونني، ووقت قطف المحصول أستأجر عمال لمساعدتنا"، قالت أم عمر.

وحتى بعد أن اصيبت بمرضي السكر والضغط، تأبى "أم عمر" البقاء في المنزل، وتصر على مرافقة أبناءها للأرض، قائلة: "عندما يمر يومين أو ثلاثة لا أخرج للزراعة، أصاب بالجنون".

وعلى رغم أنها ورثت حبها للأرض، وكل ما تعرف عن الزراعة لأولادها الذين أصبحوا الآن رجالا، يبلغ أكبرهم 39 عاماً، وأصغرهم في العشرين من عمره، الا أنها تعتقد أن وجودها أساسي للحفاظ على مستوى الانتاج الزراعي لارضها، مبررة شغفها بعملها قائلة: "ما الذي يعرفه أولادي عن الزراعة، أنا أزرع منذ أكثر من ثلاثين عاماً، أعرف كيف نزرع، وكيف نقلع، كيف نعتني بالنبتة، ما هي الامراض التي تصيبها، كيف نداويها".

ومن شمال قطاع غزة، إلى جنوبه، إلى بلدة خزاعة الحدودية شرق القطاع، تشارك المزارعة سامية النجار (47 عاما) أم عمر شغفها وحبها للأرض والزراعة، فـ"تخدم" من أجل ذلك داخل المنزل وخارجه.

تصحو سامية فجر كل يوم، لأداء الصلاة، والانطلاق في رحلة العمل، فتهيأ لأولادها التسعة المأكل والمشرب والملبس، وتحرص على اطعام "الغنم" الذي تربيه خلف المنزل قبل أن تتوجه للأرض مع زوجها وما تيسر من اولادها.

وعلى رغم المجهود الجسدي الكبير الذي تبذله سامية، الا أنها تتمسك بمهنتها بحياتها، وتطمح لتطوير عملها، وتقول: "أحب الزراعة، وتعودت على مشاركة زوجي واولادي بالعمل في الأرض، فهو يحتاج الى مساعدتي، هم يحرثونها ويجهزونها للزراعة، وأنا وبناتي نساعدهم في زراعة بزرة ثمرة الكوسا وفي ازالة العشب غير اللازم، وفي جمع المحصول".

وعلى رغم توسيعها عملها في الزراعة لتربية النحل، الا أنها تحلم بتأسيس مزرعة دجاج كبيرة.

وحول العائد الذي تجنيه سامية من أعمالها المتعددة، تقول: "هذه هي حياتنا، هكذا نعيش، نتشارك بالتعب ونتشارك في الربح أو الخسارة".

خبرة ومتعة

تبدو سامية محترفة بعملها، وهي تغرس بزرتين من ثمرة الكوسا في الأرض وعلى بعد عشرات السنتيميترات تغرس بزرتين أخريين، وهكذا على طول أكثر من خمسة دونمات من الأرض، بسرعة ومهارة عالية.

تقول سامية: "نزرع الكوسة، وبعد اربعون يوماً نحصدها".

وإلى ذلك الوقت يتطلب منها بحسب وصفها: "ازالة الاعشاب غير المرغوب فيها، فبقاءها يمكن أن يهدد حياة الكوسا، ونراقب الشتلة ومن ثم حبة الكوسا خوفاً من أي أمراض أو آفات زراعية يمكن أن تصيبها".

وتلفت إلى أن رش المبيدات أمر ضروري لمحصول الكوسا، من دونها لا يمكن نجاحه، وهو أمر تتركه بالكامل لزوجها.

بعد نضج الكوسا، تبدأ سامية وزوجها وأولادها جميعاً في جمع الحبات الجيدة في صناديق خشبية أو بلاستيكية، قبل أن يأتي التاجر لأخذها، فيما تجمع الحبات غير المطابقة للمواصفات لبيعها كأكل للدواب.

تقول: "يرغب الناس في شراء حبات الكوسة التي تميل للخضرة، وما بين صغيرة ومتوسطة، ويعزفون عن شراء التي تميل للصفار أو للحجم الكبير، على رغم أن المائلة للصفرة تعتبر صحية أكثر لأنها تكون أقل تعرضا للمبيدات الزراعية".

واسعد اللحظات عندها عندما تنجح وعائلتها في جمع محصول الكوسا، وتحقق أرباح مناسبة لحجم المجهود والتكلفة والوقت الذي يعطونه لها، فتقول: "آفة زراعية صغيرة أو موجة حر كافية لتكبيدنا خسائر فادحة، لذا أشعر بسعادة بالغة فور انتهاءنا بجمع الكوسا بسلام".

أم عمر لم تعد تشارك في حرث الأرض أو تسويتها بعد أن كبر الأبناء، الا أنها تحرص على مشاركتهم زراعة أشتال الفراولة بنفسها، فتجد في ذلك سعادة بالغة، خصوصاً بعد أن ترى بعينيها الأشتال التي غرستها وقد أثمرت حبات من الفراولة الحمراء اللذيذة.

وتروي لـ"ينابيع" كيف تمضي الأيام والشهور وهي تراقب نمو مزروعاتها، وتتفحص بشكل دائم أوراقها تخوفاً من أي آفات أو أمراض يمكن أن تصيبها، وتقول: "هذه الاشتال مثل أولادي، أحرص على صحتها وسلامتها ففيها حياتي ورزق عائلتي".

وتفضل أم عمر التريض في أرضها، ووسط اشتالها على البقاء في المنزل لمراقبة أكثر من 60 حفيد وابن وابنة وأزواجهم يثيرون الشغب والفوضى بمنزلها، فـ"القعدة في البيت تقصر العمر" على حد تعبيرها.

احتلال واهمال

هذه اللوحة الجميلة للمزارعات في خزاعة وبيت لاهيا، يأبى البعض الا أن يشوه جمالها، فمن ناحية تتعرض المناطق الزراعية بشكل عام والحدودية بشكل خاص للتجريف والمصادرة والتخريب من قبل جيش الاحتلال الاسرائيلي وآلياته العسكرية، ومن ناحية أخرى يكبدهم الحصار المفروض على قطاع غزة منذ العام 2006 خسائر فادحة ومستمرة، نتيجة اغلاق المعابر أمام تصدير محاصيلهم الزراعية.

فبعد أن كانت أم عمر، تضمن أكثر من 60 دونما من الأراضي الحدودية وتزرعها بفاكهة الفراولة، بالكاد تزرع الآن 15 دونماً، وتقول أن اغلاق الاسواق الخارجية أمامها يكبدها خسائر، وفي أحسن الاحوال "بتطلع الراس بالطاقية".

وبحسب هذا المصطلح، فإن أم عمر تضطر لبيع محصولها في السوق الغزية باسعار لا تحقق لها الربح الذي يوازي عرقها وكدها وتعبها، وكذلك التكلفة التي تتحملها نظير امدادات شبكة الري، والنايلون والجسور الحديدية التي تحتاجها لزراعة الفراولة (دفيئات زراعية خاصة)، وما تحتاجه من مبيدات زراعية، باهضة الثمن.

وتروي كيف تعرضت أرضها للتجريف بشكل كامل من قبل الاحتلال مرتين، الا أن أم عمر: "رغماً عنهم نعود للأرض ونستصلحها ونزرعها مرة أخرى، فهي مصدر رزقنا وقوت يومنا، وكثيرا ما كنا نقطف المحصول والرصاص يتطاير من فوق روؤسنا".

وتعتقد أن الاستمرار في الزراعة حتى لو لم تحقق الأرباح التي تنشدها، فإنها افضل من التسول على أبواب المؤسسات، أو الاستسلام للبطالة في المنزل.

سامية أيضا، تتمسك بالرأي نفسه، فهي لا ترى بديلا آخر أمامهم سوى الأرض.

وتروي كيف استطاعت أن تجمع محصول الكوسا حتى تحت زخات الرصاص والقذائف والصواريخ الاسرائيلية، وتقول: "في الحرب اعتقلوا زوجي وابنائي، وكل رجال المنطقة، واحتجزوهم ليومين في منطقة بعيدة، وكان الوقت قد حان لقطاف محصول الكوسا، ما اضطرني الى الخروج أنا وبناتي وكل نساء حارتنا لقطفه والرصاص يخترق السماء فوق رؤوسنا، لكننا توكلنا على الله، والحمد لله نجونا بأنفسنا وبالمحصول، وحققنا أرباح غير مسبوقة".

الا أن هذه الارباح سرعان ما تحولت إلى خسائر بعد أن احترقت شبكات الري و"الريشيت" بسبب تعرضها لقذائف فسفورية من قبل طائرات الاحتلال، علاوة على قذائف الدبابات.

وتعتقد سامية أن اغلاق باب تصدير الخضروات خارج القطاع يعرض سعرها للانخفاض في أوقات كثيرة ما يضع تعبهم ومالهم ووقتهم في مهب الريح، حيث يزيد العرض على الطلب في السوق المحلي وينخفض ثمن الكوسا.

لا رقيب ولا حسيب

وقبل أن يعدد أبو محمد، زوج سامية، المشكلات التي تواجههما في الزراعة، قدر لها مساعدتها قائلاً: "لولا مساعدتها والأولاد، ماذا كنا سنفعل؟ بالتأكيد كنا سنخسر، ندفع للعامل في الساعة 7 شيكل، وكل يوم نشتغل بالأرض ما يقارب ستة ساعات، وهناك أعمال كثيرة، الزراعة، التعشيب، الري، جمع المحصول، تجهيز الارض..الخ"، ورغم هذا التقدير الا أنه يترك

ويشتكي أبو محمد من عدة مشكلات تعرض محصوله للخسائر: "تكلفة المياه عالية، أدفع ما يقارب 400-500 شيكل ثمن مياه الري شهرياً، علاوة على أن تكلفة المبيدات الزراعية عالية جداً، والآفات الزراعية في تزايد يوما بعد يوم".

ويضيف: "لم يصلنا أي مهندس زراعي، ليشرف على استخدامنا للمبيدات الزراعية، ولا يوجد أي نوع من انواع الرقابة على المزارعين، الذين يستخدمون المبيدات بشكل غير صحيح ويعرضهم ويعرض الناس للخطر".

ويؤكد أبو محمد أن اغلاق باب التصدير أمام منتجاتهم جعل من الزراعة مخاطرة غير محسوبة العواقب، أحيانا تربح، وأحيانا أخرى كثيرة تخسر أو تغطي نفقاتها فقط.

وهو ما يؤكده مسؤول اللجنة الزراعية لاتحاد لجان العمل الزراعي في بلدة بيت لاهيا جميل المصري الذي يقول أن الحصار، واغلاق الاسواق الخارجية أمام تصدير المزروعات الفلسطينية خصوصاً الفراولة والورد كبد المزارعين خسائر فادحة".

ولفت إلى أن عدم تنظيم الزراعة، أسهم في تدني أسعار الخضروات والفواكهة المزروعة، حيث نجد أن بعض المزارعين اذا زرع بطيخ مثلاً ونجح وحقق أرباح هذا العام، نجد أن مئات المزارعين يزرعون بطيخ في الموسم الثاني، فيتدنى سعره نتيجة زيارة العرض على الطلب.

واشار الى أن كثير من الدول تقوم بتنظيم الزراعة، وتحدد للمزارع ماذا يزرع، وكيف يزرع، وكيف يبيع وبأي سعر؟ وبهذا تعزز قدرته على الاستمرار في العمل في هذا القطاع المحفوف بالمخاطر.

ولم يفت المصري من أن يضم صوته لأبو محمد النجار، وينبه من أخطار استخدام المبيدات الزراعية من حسيب أو رقيب، وهو ما يضع المزارع واسرته في خطر مباشر، وكل الناس الذين يتناولون هذه المزروعات بشكل غير مباشر.

ويضرب على ذلك عدة أمثال للاستخدام الخاطئ للمزارعين للسموم الزراعية التي تسبب في مقتلهم أو مقتل ابنائهم على الفور، فيما يتحدث الاختصاصيون عن تأثيرات غير مباشرة وخطيرة جداً للمبيدات الزراعية على صحة الانسان لا تظهر بشكل فوري.

ويعتقد المصري أن جهود المؤسسات الأهلية العاملة في الحقل الزراعي، مكنت المزارع من الصمود والاحتفاظ بمهنته وأرضه، ولولا هذه الجهود لكان الكثير منهم ترك هذه المهنة، وربما لباع أرضه.

ويشير المهندس رائد أبو جلال من الاتحاد نفسه إلى أن الاحتلال جرف آلاف الدونمات من الاراضي على طول الشريط الحدودي مع قطاع غزة مرات عدة، ما خلف خسائر طائلة بالقطاع الزراعي.

ولفت إلى أن ما قدمته المؤسسات الاغاثية العاملة في الحقل الزراعي من خدمات استصلاح اراضي، وشبكات ري جديدة، وأشتال وأشجار، وبرك تجميع للمياه، ومشاريع لتدوير المياه العادمة واستخدامها في الزراعة، كل هذه الخدمات ساهمت في دعم صمود المزارع والمزارعة في أرضهم، ومكنتهم من احتمال الخسائر المتعاقبة التي تعرضوا لها.

وعلى رغم أن الاتحاد بحسب ابو جلال والمصري قدم مئات الدورات التدريبية والورش، والزيارات الميدانية للمزارعين لترشيد استخدامهم للمبيدات الزراعية، واستهلاك المياه منذ أكثر من عشرة سنوات على تأسيس الاتحاد، الا أن الاستجابة لهذين العنوانين ظلتا ضعيفتين، بسبب انعدام الرقابة على المزارع، ورغبة المزارع في تحقيق أكبر وأسرع ربح ممكن.

وهو ما يضع سامية وأم عمر أمام خيارات صعبة، لكنها محسوبة بالنسبة لهما، فإنهما على ما يبدو مصرتان على الاستمرار في الزراعة وتحمل المخاطر.

وجه آخر

ولئن كانتا أم عمر وسامية مزارعتان قادرتان على احتمال العمل المزدوج داخل المنزل وخارجه، لرغبتهما في تحقيق ذاتيهما وفي تطوير رزقهما وعوائلهما، فإن هذا ليس حال كل المزارعات، فكثير منهن لا يجدن في هذه المهام المتعددة التي تلقيها بيئتهن على عاتقهن الا مزيدا من الاستغلال والظلم الواقع بحقهن.

تقول فاطمة معروف (38 عاما) من بلدة بيت لاهيا: "أخرج للزراعة منذ العاشرة من عمري مع أهلي، والآن وبعد أن تزوجت أنا المسؤولة عن دونمين من الأرض يعودان لزوجي، يومي بأكمله عمل منذ الثامنة صباحاً وحتى الحادية عشر تقريباً بالارض، وباقي يومي في خدمة زوجي وأولادي...أطبخ، أعجن، أخبز، أغسل، أنظف، أتابع الأولاد في كل شيء..زوجي لا علاقة له بتاتاً بكل هذه المهام".

وتشتكي فاطمة من ألام المفاصل: "عندما أستيقظ صباحاً، أجد صعوبة في ترك الفراش، أوجاع كبيرة في الظهر، واليدين والرجلين".

كان بانتظار سلفتها الهام معروف (27 عاما)، المصير نفسه، لولا اصابتها بتضخم في عضلة القلب، ما جعل استمرارها في العمل في الزراعة مصدر للخطر على حياتها، ومكنها من ترك الزراعة والتزام المنزل وأعماله.

تقول الهام: "أشارك بالزراعة منذ الصغر مع أهلي، وعندما تزوجت قبل أحد عشر عاماً انتقل عملي من منزل و ارض أهلي لمنزل وأرض زوجي، حياتنا كلها شقاء، لكن ماذا بأيدينا أن نفعل، هذه حياة نغصب عليها".

وتضيف: "قبل أقل من عام، وأثناء حملي بابنتي دعاء، اكتشفت اني مصابة بتضخم في عضلة القلب، وبناء على أوامر الطبيب لم يعد زوجي يطالبني بمساعدته في الزراعة"



في خزاعة، ومعظم المناطق الزراعية، يعتبر المجتمع احجام الزوجة عن مساعدة زوجها في أرضه، قلة أصل منها، ويحيطها تبعاً لذلك برضاه أو عقابه.

وعلى رغم أن امتلاك معظمهم لمساحات كبيرة من الاراضي يضعهم في عداد الأغنياء، الا أن ارتباطهم الوثيق بالارض وامتهانهم للزراعة سبيلاً للرزق والحياة يجعل أغلبهم في حالة من "الستر" المادي، وأحياناً الفقر، خصوصاً بعد أن تضاءلت قدرة المزروعات على تغطية نفقاتها وتعددت الاسباب التي ترفع من تكلفة زراعتها من جهة، وتخفض من أثمان بيعها من جهة ثانية.

فروحية قديح (49 عاما)، لم تستطع أن تدير ظهرها لمرض زوجها الذي أقعده المنزل منذ 12 عاما، فعلاوة على خدمته، وأبناءه العشرة، خرجت روحية للعمل، فزرعت الدونم ونصف الدونم الذي يمتلكهما زوجها تارة بالفول، أو الحمص، أو البازلاء، وأخرى بالملوخية، والبامية والبقدونس والكسبرة..الخ.

كما ربت الدواجن والأغنام، وجمعت أوراق الخبيزة أو العشب البري المتكاثر في المناطق الحدودية الملاصقة للجدار الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة وباعتها في سوق "الاربعاء" المركزي بخانيونس.

روحية تدور طوال اليوم في رحى خدمة زوجها، واطعام أبنائها، وتوفير مصروفاتهم، وكذلك في الانفاق على جامعاتهم ومدارسهم من دون أن يشعر بها أحد، ترعى الكل ولا يرعاها أحد.

استوقفتها "ينابيع" في الشارع الأخير المرصوف في خزاعة قبل الوصول للحدود، كانت تشد لجام حمارها، في محاولة لحضه على الاسراع في طريقه، وكأنها لا تملك الكثير من الوقت لتضيعه، وقد لفت شال راسها حوله حتى أخفت نصف وجهها.

بعد أن طلبت منها التوقف وعرفتها عن نفسي وعن رغبتي باجراء حوار معها حول الزراعة، أزاحت منديلها عن وجهها لتكشف عن ملامح امرأة ضعيفة، مرهقة، تعطيها من العمر أكثر بكثير مما قالت.

"حياتي كلها مقت (هم) في مقت (هم)"، قالت روحية.

وعند سؤالي عن أبنائها، ولماذا لا يساعدونها، قالت: "تخرج اثنان من الأولاد من الجامعة، وهم الآن في المنزل ولا يجدون أي عمل، ويرفضون الخروج للزراعة، أما بناتي فبعضهن في الجامعات وأخريات بالمدارس، يساعدنني احيانا في عمل المنزل بعد أن يعدن من جامعاتهن ومدارسهن..".

باختصار، يبدو أن روحية زرعت ولم تحصد بعد.

أما معزوزة قديح (75 عاما)، فقابلناها وقد أنهكها التعب، بعد أن حصدت بعضاً من أكوام القمح إلى جانبها وجلست.

كانت بصحبة بناتها وزوج احداهن، صاحب الأرض، قالت: "زمان كنت أحصد القمح، الآن لم أعد أستطيع، تعبت..بناتي يقمن باللازم".

وتضيف: "هذه أرض بنتي، وكما ترين القمح لا ينفع الا تبن للدواب، لم يصله مطر".

ومعزوزة الأم لخمسة أولاد وستة بنات، تزوجت منذ الخامسة عشرة من عمرها، ومنذ ذلك الوقت وهي تزرع في أرض الناس..تربي بعض الغنم والطيور وتعيش من رزقها وتربي أولادها.

تقول: "كنا متضمنين دونمين من الارض، وزرعنا فيهم قمح وزيتون لكن الجرافات اقتلعته كله، وحولته لأكوام".

احدى بناتها "عزيزة"، تدخلت بالحوار وقالت: "تعبونا واحنا بنات وبيلحقونا حتى واحنا متزوجات".

وتطمح عزيزة الام لثلاثة أولاد وثلاثة بنات من خلال مشاركتها في حصد سنابل القمح بأن يعود عليها ببعض المال لاطعام أولادها بعد أن استسلم زوجها لكسل وخمول البطالة في المنزل.

أما الاولاد، فتقول عزيزة: "أولادي مقصرين، أنا اللي بزرع وبقلع وببيع بالسوق كي لا يناموا جائعين".

وحتى الطبيعة تآمرت على عزيزة ايضا، فكبدتها الآفة الزراعية المسماة "الفراشة" (توتا أبسلوتا) خسارة محصول الطماطم الذي تمكنت بصعوبة من زراعته في ما يقارب من الدونم الذي يعود لزوجها.

وتعتقد عزيزة أنها تشتغل شغل الرجال، وتقبل أي عمل يعرض عليها كي توفر لقمة عيشها وأولادها.

رسمية قديح (55 عاما) التي استجابت لرغبتنا بالتحدث اليها بكل بشاشة، تاركة الأعشاب التي تجمعها من بين أشتال البصل المزروعة بارضها خلفها، كان حظها أفضل: "أولادي لا يسمحون لي بالزراعة، هم يقومون بكل شيء...أحيانا اساعدهم في التعشيب فقط".

وفي الوقت الذي كانت رسمية تخبرنا فيه بأنها تجمع الاعشاب لإطعام الغنم والحمار الذين تملكهم تعالت أصوات الرصاص في المنطقة، وهرع زوجها وأولادها، المتواجدين على بعد مئات الأمتار من الحدود باتجاهنا لمغادرة المنطقة.

شرحت رسمية الأم لسبعة أولاد وبنت واحدة: "بنزرع وبنقلع وسط الخوف، ربنا يحفظ لي أولادي".





الفراولة

على رغم أن لفاطمة معروف حكاية كبيرة مع التعب والشقاء كمزارعة، وكأم لثلاث أولاد واربعة بنات، وزوجة لرجل يفضل ترك الجمل بما حمل لها.

فإن فاطمة بدت فخورة، وهي تروي لـ"ينابيع" كيف تزرع شتلة الفراولة، وتحيطها بالعناية حتى تثمر".

تقول: "في البداية نشتري شتل الفراولة، ونزرعها بحيث يصبح لدينا مشتل صغير، وحينما يحين موسم زراعتها في شهر ايلول (سبتمبر)، نجهز الأرض، ونسمدها، ونسقيها، وترش بالأدوية اللازمة لمكافحة الاعشاب الضارة، وتجهز الارض على شكل "شور" (مستطيلات على طول الأرض)، ونوزع النايلون على طولها، ونغرس الأشتال بعيدة عشرات السنتميترات عن بعضها البعض على طول الشورة فور النايلون حتى لا تتعفن حبة الفراولة نتيجة احتكاكها بالتربة والمياه، وبعد زراعة الشتلة، نغطيها بالنايلون المرفوع على اسلاك نصف دائرية".

وتضيف: "وقت البرد نغطي الفراولة بالنايلون، ووقت الحر نقوم بتهويتها من الساعة الثامنة صباحاً حتى الواحدة ظهراً تقريباً، وفي الأثناء نقوم بازالة العشب الضار ومراقبة الاشتال خوفاً من أي آفات زراعية".

وتمتد هذه العملية بحسب فاطمة لثلاثة اشهر: "منذ شهر نوفمبر نبدأ بقطف ثمار الفراولة بشكل يومي لمدة أربعة أو خمسة شهور".

وتشرح أهمية مرحلة القطاف قائلة: "اذا كان التصدير للخارج متوافر، فيكون الربح وفير، واذا لم يكن كذلك فإن تعبنا يذهب أدراج الرياح"، مشيرة الى أن "زراعة الفراولة في كل دونم يكلف عشرة آلاف شيكل".

وتزيد: "نقوم بتعبئة ثمار الفراولة الجيدة في علب بلاستيكية للتصدير، فيما نجمع المصابة أو الأقل جودة في صناديق بلاستيكية كبيرة لبيعها في السوق المحلي".

وتلفت فاطمة النظر الى أن أي خلل في عملية التصدير يتحمل تكلفته المزارع، وهو ما يشرحه المصري قائلاً: أن المزارع يدفع ثمن الصناديق البلاستيكية واللزق، وعمولة الجمعية الفلسطينية التي تقوم بتأمينها للتصدير، وعمولة للشركة الاسرائيلية، وتكلفة النقل الداخلي والخارجي للاسواق الاوروبية، وفي حال عرقلة تصديرها كما حدث طوال السنوات الماضية من قبل قوات الاحتلال، أو حتى تعرضها للتلف أثناء شحنها للخارج، أو تذبذب اسعارها بالسوق العالمية، كل ذلك يدفع ثمنه المزارع وحده.

ورغم أن فاطمة تتعامل مع فاكهة سريعة العطب الا أنها تزداد قوة كلما نجحت في جمع ثمارها وحققت أرباح مجزية منها، حتى ولو كانت قوة معنوية لا تصمد طويلاً أمام أوجاع جسدها التي تفرض نفسها عليها في كل صباح.

هناك تعليق واحد:

  1. تقرير ولا 12 تقرير هذا انخنفت وانا برا دخوت يا ام محمد

    ردحذف