الأحد، 7 أغسطس 2011

مسلخ الشفاء


سامية الزبيدي*
عبثاً فشلت محاولاتي لكبح جماح شعور بالغثيان تسلل إلى ملامح وجهي وعيني، فهما مرآتي كما يقول لي الجميع..وعلى رغم تأثري البالغ من رؤية شقيقة صديقتي وهي تكز على أسنانها لكبح أي تعبير علني عن آلامها الشديدة  وهي تمشي في ممر كشك الولادة القيصرية بمستشفى الشفاء بمدينة غزة، بعد انجابها لولدها "محمد" بساعات امتثالاً للأوامر الطبية، الا أن تعاطفي وصدمتي برؤية هذه الشابة التي أعرفها عادةً ممتلئة بالحيوية والطاقة تتحول لامرأة هزيلة الجسد، شاحبة الوجه، تتلوى على أذرع والدتها حيناً وبالركون الى حائط الممر حيناً آخر، كل ذلك لم يستطع أن يمحو الرائحة التي تسللت لأنفي، ولا المشهد الذي ارتسم أمام عيني، ولا حتى الذكريات المريرة التي عشتها يوما هنا في هذا المشفى.


رائحة مادة "الكلور" الممزوجة بروائح الدماء الفاسدة، ومياه الأجنة، التي تتساقط من نسوة يتحضرن لدخول غرفة العمليات للولادة القيصرية، أو يتمزقن من الآلام بعد الخروج منها كانت سيدة الموقف..
غرف مزدحمة، تنفث حرارة أكثر مما يتسرب إليها من هواء بارد من الشبابيك المفتوحة، أربعة إلى خمسة أسرة في كل غرفة، يفصل بين كل منها ستارة لا أعرف لونها من شدة قتامته، أزرق أو أخضر غامق لا فرق، كما لا أتذكر الآن اللون الذي يكسو جدرانها، فالازدحام لا يترك مجالاً لتأثير الألوان أو الاضاءة الطبيعية منها أو الصناعية.
بصحبة كل مريضة إن جاز لنا التعبير، مرافقة أو اثنتان، ووقت الزيارة يتكدس حول سريرها الذي لا تفصله عن الآخر أكثر من نصف متر، ما تيسر من الزوار من نساء ورجال وأطفال.
لا أعلم لمَ توارد إلى ذهني وأنا في هذا الحال، "المسلخ"، تذكرت كيف اضطرني موت جنيني في أحشائي وهو في الشهر الثامن من عمره إلى الولادة في مستشفى الشفاء، وكيف تقاذفتني الطبيبات والأطباء كل إلى الآخر، لاقناعهم بأنني في حالة ولادة، في تجاهل تام لحرمة جسدي، وحرج وضعي النفسي.
وبعد ساعات من الرأي والرأي الآخر، وكأن الديموقراطية لا تتجسد الا على آلامنا، أشعلوا امامي الضوء الأخضر للارتقاء إلى الدور الثالث حيث "كشك" الولادة، لاكتشف هناك أيضا أن أمامي دور طويل من المرشحات للولادة في انتظار تفرغ الأسّرة، ومزاج الطبيب، فهناك وقت للفطور، وآخر للشاي، وآخر للصلاة، وآخر لاجراء المكالمات الخليوية.
أتذكر أن امرأة ضعيفة، بدوية اللهجة والهيئة، بللت ملابسها بالكامل بمياه جنينها وهي تنهب الممر الواصل بين الكشك وباحة الانتظار جيئة وذهاباً حسب أوامر الطبيب لتسريع "ولادتها"، فيما أعرف أن هذه الحالة تستوجب الاستلقاء على السرير.
حاولت اقناع نفسي بعدم الافتاء في غير تخصصي، واضاعة الوقت بالمشي في الممر حيناً، وبالدخول لأول الكشك للبحث عن طبيب أخبره بأني في حالة "ولادة" في الأحيان المتبقية..بعد ساعات جاء طبيب وقال بلهجة قوية وآمرة: "مين حالة ولادة؟ إنت؟ وإنت؟ وإنت؟"، مؤشراً إلى عدد من "رؤوس الغنم" المتلوية هناك، كنت أنا من بينها.
دخلنا إلى غرفة الكشف الأولى، ليتقرر مصير من تحول أولاً إلى غرفة الولادة...هنا أحتفظ لنفسي بذل هذه اللحظات، أذكر لكم منها فقط أن هذا الطبيب قال لي باشمئزاز: "في وحدة بتيجي تولد ببنطلون؟"..
المهم، تشرفت بالدخول أولاً لكشف الولادة، وهناك وقد شارفت دموعي على الهطول، مَنّ الله علي بمرهمين خففا علي ما رأيت: الأول: أن طبيبة قليلة الحجم، رءوم القلب شاركت هذا الطبيب "النازي" في حجمه، وتصرفاته الخشنة، وقساوة كلماته في توليدي، فخففت بعضاً من آلام الطلق، وعجن ما بعد الولادة..وهذه مصطلحات يمكن أن تفهمها النساء فقط.
والأمر الثاني: لا أعرف من هي الدولة أو الجهة التي تبرعت بتجديد كشك الولادة بهذا الأثاث الفاخر، ولكن لها مني أنا إحدى النساء اللواتي صلبن على سرير الشبح المعدني في ولادتي لابني الأول، كل عرفان وشكر وتقدير..وهذا ايضا لن يفهمه الا النساء اللواتي مررن بهذه التجربة.
ففي الوقت الذي يقول فيه العلم أن أفضل أوضاع الولادة هي تحت الماء، أو بجلوس القرفصاء، فإن النوم على الظهر على سرير مريح يعتبر معجزة بالمقارنة مع أسّرة أعتقد أن لها صلة قرابة بهتلر وأفران الغاز لازالت مستخدمة في مستشفيات وعيادات التوليد هنا في غزة.
فاتني أن اذكر لكم مكالمات الهاتف، والحديث الجانبي بين الطبيب والممرضات المستمر ما بين ضحك وجد على وقع أنغام الصراخ الآدمي، علاوة على جولات الممرضات المتدربات مع الطبيب ليأخذن دروسهن وشهاداتهن العملية من وقت معاناتنا وحرمة أجسادنا.
خلاصة الوضع، ولدي لم أره، فالطبيبة الرءوم قالت لي أنه "مشوه" نتيجة موته منذ أيام في بطني..على رغم أن طبيبي الخاص أخبرني فيما بعد أنه كان عليها أن تلفه وتريني وجهه فقط..(إحدى سلبيات التعبير الحر عن الرأي).
الأسوأ بالنسبة لي كان في كتابة الطبيب على ملفي أمراً ببقائي في المستشفى (لاحظوا لم يستشرني ولم يخبرني)، الأمر الذي فسره أحد الأطباء الذي تربطه علاقة معرفة بأسرتي واصطدمنا به صدفةً بالخوف من أي مضاعفات أو تسمم.
لاحظوا كل ما قدمته حول ظروف المبيت، بالنسبة لشقيقة صديقتي، هي الظروف ذاتها التي أمضيت يومين من عمري تحت سنديانها، وهي من أنعش ذاكرتي برؤيتها، ورؤية حال هذه المستشفى بعد أكثر من عامين ونصف على تجربتي الشنيعة، ودفعني للكتابة حولها.
لماذا أقول مسلخ؟، وقد يتهمني القائمون عليه، بالجحود للخدمات الجليلة التي قدموها لي يوماً، ولعشرات الألاف من النساء، وهو المستشفى الأكبر في قطاع غزة، ليس فقط لأن المكان غير صالح لمبيت الأغنام، على رغم الجهود المتواصلة للتنظيف، وزيادة كمية الكلور المستخدمة للتطهير، بل ولأن نوعية الخدمة المقدمة أيضاً لا ترتقي لمستوى التعامل مع البشر، وليس أي بشر، بل نساء في لحظات حرجة من الضعف والألم، يحتجن لكل حنان وصبر واهتمام، هذه الخدمة التي ذهب ضحيتها عشرات النساء ومواليدهن بالموت في أكشاك الولادة أو جراء أخطاء طبية دفعن ثمنها بعدها، وظلت حقيقة ما حدث لهن طي كتمان اللجان التي تشكلت إعلامياً، وحفظت أعمالها ونتائجها في الأدراج المظلمة.
مقالتي هذه، أتمنى أن تزعج البعض إلى درجة أن يضعوا مهمة أنسنة هذا المستشفى وطواقمه على جدول أعمالهم السريع والسريع جداً.

·        صحافية من قطاع غزة




خلو الفقير على فقرو


سامية الزبيدي
مطاعم، كافيهات، سوبر، وهايبر، ومول ماركت، محال على كل حال، ومن كل الالوان والاشكال، غزت قطاع غزة المحاصر، كما تغزو حبوب الجدري جسد رجل هرم.سنغافورة التي وعدنا بها رجالات أوسلو، والمطبلون والمزمرون له، تحققت أخيراً، لكن على أيدي غرمائهم، الذين عادوا أوسلو وافرازاته طويلاً ثم عادوا وتمرغوا في خيراته أو وحله كيفما تشاءوا، فالأمر "وجهة نظر".هذا الصيف، لم يكن مفاجئاً بحره الشديد فقط، بل ايضاً بانفتاح اقتصادي لافت للنظر، فندق خمس نجوم في غزة، مطاعم فخمة وضخمة، فيلات بأحواض سباحة مغرية، شاليهات ومولات ومحلات كثيرة من أول القطاع لآخره، بعضها أنشأت حديثاً، وأخرى توسعت وتضخمت في المكان والإمكانات والعروض السياحية المغرية، حتى أنك تحتار كيف، ومتى وأين تقضي أوقاتك في غزة؟.لكن السؤال الأهم بالنسبة لشريحة كبيرة من مجتمعنا المعدم، البائس، المستور تحت أسقف الزينكو و الاسبست، وربما الباطون في أحسن الأحوال، هو "من أين؟".ففي الوقت الذي تشير فيه الإحصاءات المتناقضة في نتائجها كحالنا جميعاً، لمعدلات الفقر والبطالة في القطاع إلى تباين كبير يتراوح بين 38-85 في المئة من مجتمعنا فقراء، وبين 42-57 في المئة منهم متعطلون عن العمل، فإننا نتساءل عن حاجة مجتمعنا لهذه المشروعات الاستهلاكية الضخمة، ومدى قدرة هذه الشرائح الكبيرة من فقراء ومعدمي شعبنا على الاستفادة منها؟.وهل عمالنا المتعطلون منذ مطلع الانتفاضة، وشبابنا الذين يتكدس الآلاف منهم كل عام في انتظار فرص عمل، وحتى موظفي السلطتين في غزة ورام الله الذين تتسرب رواتب معظمهم في الأيام العشرة الأولى من كل شهر، قادرون على الاستفادة من هذه المشاريع السياحية والاستهلاكية الفخمة والضخمة؟ أم هل المطلوب من هؤلاء أن يحترموا أنفسهم ولا ينظروا إلى لقمة أسيادهم من الأغنياء والقادرين على دفع كلفة الانخراط في هذا التطور اللافت؟لاشك أن العروض مغرية جداً، وأعرف عشرات من الفقراء يرتادون هذه الأماكن للفرجة، وأحياناً لنكران فقرهم، وفي الحالتين فإن ذلك يزيدهم إحساساً بفقرهم، وربما يزيدهم فقراً حينما ينفق بعضهم ما يدخره للمصروفات الأساسية على سويعات من المتعة الجديدة، كما أعرف ميسورين (من ذوي الرواتب العالية) تحولوا نتيجة إدمانهم على التمتع بهذه الرفاهية إلى فقراء في النصف الأخير من كل شهر، ما يضطرهم للاستدانة، وربما إعلان الإفلاس فور انقطاع هذه الرواتب أو تأخرها.استذكر أن عضو المكتب السياسي لحركة "حماس" محمود الزهار، وكذلك برنامج "حماس" الانتخابي، وعد الناس قبيل المعركة الانتخابية بمشاريع استثمارية لا استهلاكية، تشغل الناس، وتقيهم شر السؤال، حتى أنني أتذكر كيف كان يردد الزهار بان جرة الغاز ستباع بأزهد الاثمان...فما الذي حدث يا حماس، وكيف تحولتي من منتقد لأداء السلطة الاقتصادي التبعي للاحتلال، النفعي لأصحاب رؤوس الأموال، إلى ممارس للأداء نفسه؟ وكيف تستقيم دعواتكم للعالم بفك الحصار؟ وأنتم ترعون وتشجعون أصحاب رؤوس الأموال المدعومين، أو الوسطاء باسمكم للاستثمار في مشاريع استهلاكية، تزيد ثروة الأغنياء، وتزيد فقر الفقراء، بل وتزيد إحساسهم بفقرهم وتحرمهم من فرصهم للعمل والحياة بكرامة.لا أكتب اليوم كي أنتقد "حماس" وحكومتها، بل أكتب لأنتقد هذا الأداء الذي يعنيني شخصياً في غزة، كمواطنة أرى، وأحس بنفسي وبمن حولي. هذا الأداء الذي ربط كل حركاتنا وسكناتنا بجدول ضريبي أرهق كاهل الناس، ولم يحارب الاحتكارات بل تعامل معها وكيفها لمصالحه، وترك المواطن وحيداً في معركته مع غلاء المعيشة والأسعار، وتوحش رأس المال، و لم يقدم شيئاً للعمال والفقراء والمعدمين سوى تعزيز ثقافة الهبات والمكرمات والإعانات، والواسطة والمحسوبية في كل المرافق الحكومية.يسؤني ونحن في رمضان، أن يكون هذا هو نموذج السياسة والاقتصاد الإسلاميين الذي انتخبه شعبنا لتغيير هذا الواقع المتردي بالأفضل، هذا النموذج الذي يحاكمه الآن كل أصدقاء وأعداء الفكر الإسلامي الذي ينادي بالإسلام حلاً، ويؤكد أنه نظام شامل لكل مناحي الحياة.ليجبني أحدكم، بم يختلف هذا النموذج عن النموذج الرأسمالي الانتهازي الاحتكاري العفن الذين عانينا هنا في فلسطين إحدى دول العالم الثالث طويلاً من تبعاته؟ولي رجاء بسيط لأباطرة القرار والمال: خلو الفقير على فقره، فإن لم تنتشلوه من ضعفه وقلة حيلته، فلا تسهموا في تعميق فقره، وإحساسه به.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق