السبت، 15 يونيو 2013

بين نزف الضمير وحمل القضية

سامية الزبيدي

رغم تقصيرنا أحزابا وفعاليات وحكومات وانظمة وأفراد ، وتراجع قدرتنا على المشاركة في تحرير المعتقلين الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال أو التضامن معهم كلٌ بطريقته بما يحفظ الجميل لتضحياتهم ومعاناة عوائلهم وأسرهم، الا أنّ المُجمَع عليه فلسطينيا أن تحريرهم واجب وطني وإنساني، وأن هؤلاء الأبطال وآخرين شهداء من أبناء شعبنا هم الأكرم منا جميعا، الأكثر وطنية، وإخلاصاً، وعطاء . 



والسؤال هل من فعل حقيقي وترجمة على ارض الواقع لهذا الاجماع؟ ولماذا يتبدد هذا الاجماع سريعاً بعد أن يتحرر بعضهم؟ إلى حد أن البعض يقول بأن المعتقل بعد أن يتحرر ينحدر من قدسيته كمعتقل من أجل الحرية ليغدو مجرد عضو في هذا الفصيل أو ذاك، فيلصق به ما يعتقده بشأن هذا الحزب أو تلك الحركة من رأي أو اتهامات.

وكأن حالة الأسر تثقل ضمائرنا.. لا عقولنا، تحرجنا.. لا ترفع رؤوسنا، ولئن كان هذا حالنا أمام من أمضوا عشرات السنين من زهرات عمرهم، فكيف نحن مع من أفنوا الجسد في بضع أيام أو شهور في إضراب مفتوح عن الطعام حتى هزل اللحم، وبان العظم، وتيبس الحلق، وتحولقت العيون، وترهل الجلد، ووهن البدن ..
فما أن يتحرر بعض المعتقلين حتى نخلي ضمائرنا من قضيتهم، ويبدأ البعض في كيل النقد لهؤلاء المعتقلون المحررون لأنهم استكملوا نضالهم في صفوف أحزابهم، أو انسحبوا خلف الكواليس لبعض الوقت أو لما تبقى منه، ومن دون أن نحفل كثيرا في السؤال عما عايشه هؤلاء في الأسر وبعد الحرية؟.

أكثر من 670 ألف فلسطيني وعربي اعتقلوا في سجون الاحتلال منذ العام 1967، منهم ما يقارب 13 ألف معتقلة، و25 ألف طفل، حتى لا يكاد بيت فلسطيني يخلو ممن اكتوى بعتمة الزنازين، وتنسم عبير الحرية.
بالأمس القريب، تنفسنا جميعاً الصعداء، وفرحنا وهللنا وكبرنا، لنصر سامر العيساوي الصغير على المحتل في معركة دفع ثمنها من لحمه ودمه، بعد أن صارع جوعه ووجعه طوال تسعة أشهر من الإضراب المفتوح عن الطعام، وصرع الثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور التي غادرتنا سريعاً من دون أن نحس بها كما فعل سامر. 

وبالأمس البعيد، كان الشيخ حسن اللاوي الذي كشف عنه الكاتب الدكتور فايز رشيد في مقاله "شيخ الأسرى الفلسطينيين… أغرب من الخيال!" فقد العقل، وشاخ جسده بعد 42 عاما من السجن في زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، ثم احتلالها من الصهاينة، حتى إذا ما رأى النور أزعجه، واحتضن ولداً لم يحس بأبوته له، فمات بعد أقل من ثلاثة شهور فقط "ليموت وحيداً كما عاش وحيداً" كما يقول الكاتب.
وبينهما كثرت الروايات المفجعة عن شهداء، ومرضى، ومعاندون، ومناضلون، وعن آخرين، ضعفوا، أو جنوا، أو انحرفوا، لكن هذه المعانيات على ثقل وقعها على قلب كل إنسان، وألمها الذي عايشه كثير من أهلنا، فإنها ليست الوجه الوحيد لهذه القضية التي كانت مصدر عز وفخار لنا، فأصبحت شعاراً نتزين به في المناسبات العامة، وورطة ضميرية يعيشها كلٌ منا، علَت مرتبته أو دنت، قلّت قدرته على الفعل أو تعاظمت.

الوجه الآخر لأزمتنا، تجلى في حال المعتقلين بعد التحرر، ففي زمن سابق، احتفى الفلسطينيون بتحرر أبنائهم وإخوانهم العرب، فأكرموهم، وأسكنوهم، وزوجوهم، فكانوا منهم القلب لهذا الجسد، ثم انتقل الدور قليلاً للسلطة الفلسطينية بعد إقامتها، فصارت قبلة البداية للمُحرر، بوظيفة، وراتب، وشقة، وتعليم.

رويدا، رويداً، فقدنا دورنا، وانضممنا إلى صفوف المراقبين، ثم المشاهدين، ثم الحاسدين، وبتنا نسمع أصوات من يغبطهم على مكتسبات لا تساوي لحظة ذل، ولا ساعة وحدة، ولا حرمان من أهل أو أحبة.
عن هؤلاء لن أتحدث مطولاً، فما يهمني أكثر هو أولئك الذين دفعوا من دون حسابات مسبقة جل ما ملكوا فداء هذا الوطن، ليخرجوا الى باحاته فيجدوه مقسماً بين ضفة وغزة وقدس، بين فتح وحماس، بين داخل وخارج، بين وبين وبين..

وحتى ما استحقوا من مكتسبات مادية لا تفيهم عمرهم المهدور على مذبح الحرية، دخلت في "حسبة" ابن هذا التنظيم أو ذاك؟، ابن حكومة غزة، أو الضفة؟، فضاعت حقوق لهم بفعل الانقسام.
أعرف محررين، احترقوا ألماً وهم يرون أبناءً لم يروهم منذ سنوات، ولا يجدون لهم غذاءً أو كساءً، وأعرف مناضلين ألجموا ألسنتهم عن نقد حركاتهم، حفاظاً على حقوقٍ لهم وُضعت رهن المساومة، وأعرف فدائيين هجروا ساحات النضال حتى لا يخسروا ما تبقى من عمر من أجل محبي الكراسي.

وزاد الاحتلال بعضهم رهقاً، بنفيهم من مسقط رأسهم في قطعة أخرى من هذا الوطن السليب، فأصبح القهر اثنين: الأول من إعادة اعتقال، أو اغتيال، أو استمرار الإبعاد، والثاني من ضيق العيش، واستجداء الحقوق، وذل السؤال.
فكيف السبيل لحفظ كرامة من أكرموا هذا الوطن؟ وكيف السبيل لمغادرة نزف الضمير نحو العودة لحمل القضية، قضية المعتقلين الفلسطينيين، أبناءنا في المعتقل وفي الوطن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق