السبت، 1 أكتوبر 2011

ممتعة صديقتي ولكن؟؟

سامية الزبيدي
أحب مراقبتها وهي تعد الشاي، إنها تتحرك في غاية السلاسة والنظام، تأخذ مرطباناً وتعيد آخر إلى مكانه، تعبئ الماء، وتشعل الغاز، تحضر صينية وتضع أكواباً زجاجية لشرب الشاي في غاية الدقة والهدوء والنظام في كل مرة أراها تعده في زيارتي القليلة لها في منزل ذويها تعيد الخطوات نفسها، أحب نظامها أكثر كلما زادت فوضويتي، وأتمنى لو أقلدها، لكني لا أحسن.


إنها جميلة بكل ما فيها، خارجها، مثل داخلها، ممشوقة القوام، صبورة، عيونها ملونة، كما تحب أن ترى الحياة، حديثها جميل، كما قلبها.. إنها صديقتي، التي لم يقدر لها الله فرحاً كثيراً في حياتها.
إنها صديقتي التي أذاقها الرجال فنون في القتل البطيء، والتعذيب الممنهج، والألم الذي يحفر بصماته في داخلها عميقاً، ولا يغيب.
إنها صديقتي ومثلها كثيرات، نشأت في أسرة كبيرة، للرجل فيها أولوية، وحقوق لا تملكها أنثى، لإخوتها الكثيرون حق الطاعة، ولها ولإخواتها البنات حق الرعاية والحماية حتى من أنفسهن، فلا يتحدثن ولا يخرجن ولا يخالطن الناس إلا بميزان ذكوري معروف.

تزوجت، بعد أن أنهت دراستها الثانوية، بابن عمها، "خياراً عائلياً" لم تجد فيه غضاضة وهي التي لم تعرف من الرجال ما تفرق به بين الغث والسمين، وسافرت وتغربت معه في دول عدة، عانت فيهما الأمرين من زوج مهمل، ضعيف، عنيف.
أهملها، وحبسها، وشتمها، وضربها، بمختلف الأشكال والألوان، الا أنها أنجبت منه ولد وبنت، ورغم "حردها" المتكرر إلى غزة، الا أن الأهل الذين لم يعرفوا يوماً مكاناً للمرأة غير منزل زوجها، أعادوها الى زوجها مكسورة الجناح، بعد أن مرغ أنفها وكرامتها في التراب وأمام الأشهاد من عائلتها وعائلات أعمامها وأخوالها، باتهامها بالتقصير، والاهمال، وهي من هذه التهم براء.
وأخيراً بعد ثمانية سنوات من العذاب المستمر، حصلت صديقتي على الطلاق من دون أن تختاره أثناء مشكلة قاصمة تفجرت بينها وبين زوجها، وكان الطلقة الثالثة، فعادت الى أرض الوطن تلملم جراحها، يجر ثوبها ولد وبنت، الأول في الثامنة من عمره ومصاب بمرض مزمن في قلبه، والثانية في السادسة من عمرها.
وبعد أشهر من ذل الحديث عن النفقة، وحقوقها المادية، بين طامع، و جاهد، عاد الزوج ليطالب بأولاده، وبدء الأهل في الضغط على صديقتي للتنازل عن ولديها كي تشق حياتها، فتستبدل طليقها بسيد سيده.
وعلى رغم اصرار صديقتي على حقها في الاحتفاظ بطفليها، ومضيها في إكمال دراستها الجامعية الا أن مقاومتها أخذت في التلاشي والأبواب توصد، والحديث المخيف عن المستقبل يتكرر أمامها، وفي الوقت الذي كانت هي ممزقة ومرهقة بين المستشفيات مع طفلها المريض، ودراستها الجامعية التي استئنفتها بعد انقطاع لسنوات طويلة، انتزعوا منها طفليها، ليموت الأول في اليوم الثان من وصوله برفقة والده الى بلدهما العربي.

يقول المثل ضربتين في الرأس توجع، فإذا بهما ثلاث ضربات "طلاق، وموت، وحرمان"، طلاقها، وموت ولدها، وحرمانها من ابنتها الوحيدة، انها ضربات كفيلة بأن يفقد الانسان عقله واتزانه، وربما رغبته في العيش..الا ان صديقتي التي أكتب عنها اليوم كانت نموذجا للصبر والقوة والرغبة في الحياة والنجاح، فمضت في حياتها، بكل جروحها، وتخرجت من جامعتها بتقدير جيد جداً.
وما كادت تصل إلى هذا الحد من النجاح، حتى صدمها حب رجل أهوج، خطبها، وبعد جهد جهيد وافق أهلهما الممانعين، وعلى رغم أنه كان "مطلق" الا أن أهله وجدوا أن حالته هذه لا تعني القبول بزواجه من مطلقة، فيما رأى أهلها أن "ظروف ومواصفات هذا الرجل" لا تصلح لها.
أحبته، وأحبها، ومضيا كعصفورين في جنة، رغم الأفق الملبد بالبطالة والفقر، والمعاناة، إلا أنها حرصت على الوقوف بجانبه، وأكدت له إنها ستحتمل فقره وبطالته وتكافح معه جنباً إلى جنب ليبنيا حياة أفضل لكليهما، يعوضا فيها ما فاتهما من سعادة.
إلا أن صديقتي التي لم تكن تشك لحظة في أن الله في طريقه إلى تعويضها عما عانت، لم تحسب لما حدث حساباً، فها هو خطيبها يقرر إعادة زوجته السابقة، وقد اكتشف بعد كل ما بنياه من قصور الأحلام و من دون انذار سابق أنه ظلم مطلقته، وأنه لا يستطيع المضي قدماً من دونهما هما الاثنتان.
وكان للنظام الذي تتسم به صديقتي، دوره في اتضاح الرؤية أمامها، فقررت فسخ الخطوبة مع كل ما يعنيه لها من ألم ومعاناة ووصمة "مطلقة" للمرة الثانية.
"هل أرى العمى وأتعامى؟" هكذا كانت ترد صديقتي على كل من يحاول أن يقنعها أن تقبل بهذا الوضع، وأن تكون زوجة ثانية بدلا من "مطلقة" للمرة الثانية.
كانت بحاجة الى حياة تعوضها ما تعانيه، لا معاناة جديدة مستمرة، تعتقد هي أنها لم يعد لديها قوة على احتمالها...على رغم أن صديقتي التي أفتخر بها كثيراً احتملت ما لا يحتمله أقوى الأقوياء.
وها هي ورغم ثقل جراحها، وحرمانها من رؤية ابنتها منذ خمس سنوات بسبب الوضع السياسي والأمني في قطاع غزة، واغلاق المعابر المتكرر، تبكي صديقتي على أوضاع غزة وما يحدث فيها من انقسام وتشرذم واقتتال قتل انتماءنا ووطنيتنا حتى بتنا نكره بعضناً بعضاً.
غريبة صديقتي، وكأنه ينقصها هموم، بات همنا الوطني همها أيضاً.


نشرت في "صوت النساء" سابقاً.


طلاق أو نفقة
سامية الزبيدي
تعرفت طوال عملي الصحافي على عدد كبير من صنوف التمييز والظلم بحق المرأة على الصعد السياسية والاجتماعية والقانونية الا انني لم أتلمس مدى عمق الظلم القانوني الذي تعانيه النساء اللواتي يقررن انهاء حياتهن الزوجية لسبب أو لآخر، الا حينما اصبح هذا الظلم على بعد أمتار مني.

فقريبتي التي قررت بعد أربعة سنوات من المحاولات المتواصلة لاستمرار حياتها الزوجية مع زوجها العنين، أمضتها في تبادل الاتهامات بينها وأهلها من جهة، وبين زوجها وعائلته من جهة ثانية فيمن يتحمل المسؤولية، ثم في جولات منفردة على الطبيبات ومشايخ قراءة القرآن، وحتى على مشايخ الجن والصولجان، فيما رفض الزوج الخضوع الى أي اجراءات طبية أو قرآنية أو حتى شعوذية، وأخيرا وصلت الزوجة بفعل ضغط أسرتها المستمر الى أروقة المحاكم، فقيل لها لابد أن ترفعي قضية نفقة حتى يضطر هو الى طلب الحل العشائري، فتحصلين على الطلاق مقابل التنازل عن حقوقك أو بعضاً منها من مهر مؤجل وعفش بيت، ومصاغ ذهبي، ففعلت ولم يكن بيدها خياراً آخر.
الدافع ليس مادياً، مع أنه حقها، لكن هذا الاعتبار المادي يعني مجتمعياً اعترافاً بالمذنب في علاقة خاصة لا يعلم حقيقتها سوى الله والزوج والزوجة.
فإذا استطاعت (ل) الحصول على حقها في المؤخر وعفش البيت ومصاغها الذهبي الذي سبق وأن منحته إياه لمساعدته على أعباء الحياة فإن هذا يعني أن الحق إلى جانبها، والباطل الى جانبه، أي ان دعواها بأنه السبب في عدم ممارسة حياتهم الزوجية صحيحة، في الوقت الذي يدعي فيه هو أنها هي السبب بتمنعها الجسدي عليه.
عادت قريبتي إلى منزل ذويها، ولم يستجب ذوي زوجها للحل العشائري فتوجهت الى المحكمة التي كان الزوج أسبق من حكمها لها بالنفقة إلى الزواج من أخرى.

والآن، وبعد أن كنت وكنا نعتقد أن حقها في الطلاق مسألة وقت لا أكثر، اتضح لي أننا معشر النساء لم نلتحق بالقرن الواحد والعشرين بعد في غزة، فليس لنا حق في الطلاق الا بموافقة الزوج أو بحكم المحكمة في الحالات التالية فقط:
- النزاع أو الشقاق: وعلى المرأة أن تثبت بمحضر شرطي وشهادة طبية حكومية أنها تعرضت للضرب من قبل زوجها، وليس أي ضرب بل ضرب يريق الدم أو يفتح الرأس، أو يجرح الجسم.
- عدم الإنفاق: وكأن العلاقة بين الرجل والمرأة لا تعدو عن علاقة مادية، مال مقابل طاعة في ميزان شيوخنا الأفاضل.
- الغياب: وذلك لعام أو أكثر، وهذا أمر أيضاً يحتاج إلى إثباتات وإجراءات مطولة.
- السجن: وذلك بأن يكون محكوم بثلاث سنوات أو أكثر، كي يمكنها الحصول على حقها في التفريق.
- المرض: الذي يمنع الزوج من الدخول على المرأة، وفي هذه الحالة تلجأ المحكمة إلى إلزام الزوجة بالرجوع إلى زوجها والبقاء في بيته مدة عام يقوم خلالها الزوج بالعلاج، وإذا لم يشف فيمكن للقاضي التفريق بينهما حينها، ولا يهتم القانون نهائياً بعد الدخول إن كانت المرأة تأخذ حقوقها الجنسية التي شرعها لها الله كما ينبغي أم لا، كما يجبر المرأة على البقاء لتمريض زوجها المريض بأمراض أخرى بغض النظر عن إرادتها، فيما سرعان ما يسارع الرجل إلى التطليق أو الزواج على المرأة التي تصاب بأي مرض طارئ أو مزمن.
- الهجر: الذي تجاهله القانون بشكل كامل، ما اضطر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان إلى دعوة القضاة وإقناعهم بضرورة الأخذ بهذا العامل لتفريق النساء اللواتي يهجرهن أزواجهن ولا يتحملون أياً من مسؤولياتهن المعنوية والمادية اتجاههن، وبالفعل بدأ بعض القضاة يتفهمون تفريق النساء عن أزواجهن الذين يهجروهن، إذا تيقن القاضي وقوع الهجر لعام على الأقل.
وخلاف ذلك فلا يمكن للمرأة الحصول على الطلاق لو بقيت عمرها كله معلقة، طالما أن الزوج يدعي أنه يريد زوجته.
وخلاصة ما فهمته يعني أن القانون يقتل النساء مرة أخرى، حينما يجبرهن على الاختيار، بين الحل بالتراضي الذي لا يحمل من اسمه شيئاً، إن تكرم الرجل ووافق على ذلك، حيث يجبر المرأة على التنازل عن حقوقها المادية كاملة أو مجزوءة مقابل حصولها على طلاق يفتح الباب أمامها على معاناة جديدة.
وبين البقاء معلقات، فلا هن متزوجات ولا هن مطلقات في سبيل حصولهن على حقهن المادي في النفقة والمهر المؤجل وغيره، فعلى كل امرأة أن تقرر هل تريد نفقة أو طلاق وعلى مشاعرها وعمرها ومستقبلها وحتى حقوقها المادية السلام؟!!!!!!!.


* نشر في صحيفة صوت النساء


أخت البنات
سامية الزبيدي
الفقر امرأة، يبدو هذا المفهوم صحيحاً تماماً، حينما تنظر الى "س" تلك الفتاة التي بلغت منتصف الثلاثينات من عمرها وقطر الزواج لم يقف ببابها الا حاملاً متزوج يريد التعدد أو مطلق كثير العيال أو أرمل مسن يبحث عمن يخدمه في ما تبقى له من أيام.

تمضي "س" يومها بهمة ونشاط كبيرين كمعظم النساء الفلسطينيات اللواتي يتحملن مسؤوليات الحياة وضغوطها الكثيرة، فلا تجد لنفسها متسعاً للاهتمام بنفسها.
فـ"س" تستيقظ قبل شروق الشمس لتؤدي صلاة الصبح، ثم تبدأ في الغسيل والنشير، والعجين والخبيز، والطبيخ والتنظيف..ولا تكاد تنتهي من عملها حتى صلاة المغرب تقريباً.
ووسط هذه الأعمال تتدبر "س" أمرها لتهرع إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "اونروا" وإلى وزارة الشؤون الاجتماعية وإلى المؤسسات والجمعيات الخاصة بدعم الأسر الفقيرة لتحصل على مساعدات عينية ومادية تعتاش منها أسرتها المكونة من والدها ووالدتها وأخواتها البنات الستة.
والد "س" يتذرع بـ"الديسك" في ظهره حيناً، وبعدم وجود فرصة عمل له حيناً آخر، للبقاء في منزله، صارفاً وقته في القيل والقال و شرب القهوة تارةًً والشاي تارةً أخرى مع جيرانه المتعطلين عن العمل أمثاله.
ولا تتحمل والدة "س" أي جزء من المسؤولية المادية، فهي المسؤولة الثانية عن المنزل معنوياً بعد زوجها، الا أن المسؤول الحقيقي عن تدبير أمور المنزل وترتيب حياتهم المعيشية الصعبة هي "س"، التي تتحمل أيضاً تهجمات وحتى لكمات أقربائها  أسوة بأمها وأخواتها الستة حينما يعتقد أو يسمع هؤلاء الأقارب أنهن ارتكبن أي خطأ على شاكلة أن يجلسن أمام باب المنزل لتنشق بعض النسيم البارد في أيام الصيف الحارة والتحدث مع بعض الجارات كما جرت العادة في مخيمات اللاجئين في قطاع غزة.
وعلى رغم أن والد "س" (الذكر) لم يستطع حمايتهن ومنع الاعتداء المتكرر عليهن الا أن والدتها التي قاربت الخمسين من عمرها، لا زالت ترجو الله أن يرزقها "الولد" كي يحمي شقيقاته من بطش القريب قبل البعيد، ويشاركها الرجاء والدعاء الدائم بناتها الست.
وإلى أن يستجيب الله دعائهن، تسند مهمات (الذكر) المجتمعية كلها الى "س"، فهي من يشتري وهي من تبيع ما يفيض من حاجتهم من مواد تموينية يتلقونها من أوجه الخير القليلة، كي ينفقوا من ثمنها على احتياجاتهم الأخرى.
وهي أيضاً من يتابع "أختيها الصغيرتين" في المدارس، ويؤمن متطلباتهما من ملابس وكتب وقرطاسية، ويحل مشكلاتهما في المدرسة مع الأستاذة ومع الطالبات، خصوصاً وأن تحصيلهن العلمي متدنٍ بسبب حالة الأمية التي تعيشها الأسرة عموماً من الأب والأم مروراً بـ"س" وأخواتها الأربعة الأخريات اللواتي حرمن من اكمال تعليمهن لاسباب متعددة، لكن غير مبررة.
ولا تجد "س" غضاضة في ان تتوسل إلى بنات جيرانها "المتعلمات" كي يمنحن أخواتها بعضا ً من الوقت لشرح المبهم في المنهج الدراسي.. وما أكثره.
منذ بعض الوقت تزوجت شقيقاتها الأصغر "ن" و"ز"، فكبرت مسؤولية "س" ولم تصغر، فعليها الآن مراعاة أخواتها المتزوجات، في فرحهن وترحهن، وعليها أيضاً مراعاة أزواجهن أيضاً، و"تكبير واجبهم" بإخفاء الحال البائس، وتبديله بحال أفضل، فتستعير "كاسات الشاي أو العصير المتشابهة" من الجيران، فأكوابها من كل لون وشكل، وكذلك تستعير بعض الكراسي..وأشياء أخرى...
وتَجهد "س" لترضي كل من حولها، ولا أحد يبحث عن رضاها، أو حتى عن صحتها، على رغم أنها "تهرع" عند أي مرض يلم بأي أحد منهم إلى مراكز الرعاية الصحية لعلاجه.
إلا أنها تكتفي بكوب من "الميرمية" المغلية عند أي مرض.. وحتى"الأكزما" (مرض جلدي) التي تجتاح يديها تماماً بسبب مواد التنظيف الخاصة بالجلي والغسيل وخصوصاً مادة الكلور التي تكثر "س" من استعمالها، فإنها تستخدم أي "مرهم" تجده في المنزل لتخفيف آلامها التي تشتد في فصل الشتاء، ولحسن حظها "تزبط معها".
وعلى عكس النظرة المجتمعية السائدة لـ"أبو البنات" التي تحمل الشفقة غالباً، ينظر المحيطون بأخت البنات لها بمشاعر متقلبة، فساعة يمتدحونها فيقولون أنها "بمئة رجل"، وكأن المرأة بذاتها لا تساوي شيئاً إلا إذا وزنت بالرجال،  وساعة يتهامسون عليها ويقولون أنها "مسترجلة وبدها عارض".

"س"، التي يطمرها الهم والشقاء من رأسها حتى قدميها، تعزي نفسها وما تفتأ تقول: "الكل يحسدني لأني لم أتزوج، وعايشة حياتي على راحتي"!!!.


خزاعة الوادعة

 سامية الزبيدي

سويعات أضافت الكثير من المتعة والسعادة لحياتي المشدودة بتوتر كبير في الآونة الأخيرة، كنت في عمل، إلا أن العمل تحول إلى رحلة، تخليت فيها عن موضوعيتي، وانحزت بالكامل للمكان والزمان وأصحابه.
الوصول للمكان، سهل ممتنع، في قطاع متشابه إلى حد كبير بشوارعه، وبيوته، وناسه أيضاً، شارع وحيد رئيس يخترق جوف ثلاثة قرى متشابكة، لا يعرف متى خرجت من الأولى، ودخلت في الثانية إلا أصحابها.
المكان رسم نفسه في مخيلتي كلوحة تأبى الرحيل منذ أيام، بيوت لا تختلف في معظمها عما عهدته منذ انتقالنا للسكن في مخيم جباليا للاجئين وأنا في السادسة من عمري، الا من بعض المنازل الفخمة التي تعود لبعض الملاك الميسورين هناك.
الشوارع كانت نظيفة جدا، حركة الناس خفيفة، والباعة جالسون في معظمهم أمام محالهم يغالبون نعاسهم بنرجيلة هنا، وبحديث جانبي هناك، بينما الأعلام الخضراء، وبضع من الأعلام الحمراء، ترفرف فوق أعمدة الكهرباء بالقرى الثلاث، احتفظ سكان المكان لأنفسهم بالسيادة على منازلهم ورفع معظمهم الأعلام الصفراء.
بني سهيلا، عبسان الكبيرة، خزاعة...خزاعة الحدودية..الجميلة..الوادعة..بخضرة أشجارها التي تملأ شوارعها، وباحات منازلها، واتساع أرضها، بصفرة سنابل قمحها المنتشرة على مساحات كبيرة منها، بطيبة ناسها، وحسن ضيافتهم، في خزاعة عرفت وجهاً آخر لغزة الكئيبة..اللئيمة في غالب الأحيان.
إبراهيم أبو ريدة، كان دليلي للمكان الذي أزوره للمرة الأولى، حماسه المتدفق من عينيه، ورغبته المندفعة نحو الحياة والنجاح، كانتا الصفتان اللتان راقتا لي فيه منذ عرفته، الحيوية والنشاط والرغبة بالعمل والانجاز التي يتمتع بهم إبراهيم، هي صفات لم أكن ألحظها بكثرة في الشباب قبل 15 من آذار.
كان في انتظاري على مفترق بني سهيلا شرق محافظة خانيونس، مصطحبا اياي للتنقيب عن أوضاع المزارعات في المناطق الحدودية بناء على تنسيق مسبق في إطار تحقيق أعده حول الموضوع لمجلة ينابيع الصادرة عن جمعية المرأة العاملة للتنمية، متنقلا بي من منزل خالته المزارعة، شبيهتي بالاسم الأول سامية النجار، إلى أخريات حتى وصولنا إلى أقصى ما يمكن أن نصل إليه على الحدود المختطفة برسم الاحتلال وبما يحفظ سلامتنا معاً.
قابلت هناك روحية، وعزيزة، ومعزوزة، ورسمية قديح، وغيرهن الكثير من النساء العاملات هناك في حصد محصول القمح، أو زراعة الكوسا، أو التعشيب وغيره من المهمات الزراعية..كانت علامات الشقاء مرسومة على قسمات محياهن الدائم الابتسام، شقاء الكد والتعب اليومي حتى لم تعد تميز العمر الحقيقي لهن.
تحدثنا مطولاً عما يزرعن، وكيف يوفرن كل أشكال الراحة لأسرهن من مأكل ومشرب وملبس داخل المنزل، ويشاركن في الوقت نفسه أزواجهن وأبناءهن في قطف رزق عائلاتهن في صمت.
ما أثار رغبتي بالكتابة عنهن وعن خزاعة، هذا الكم اللافت من الشجاعة والجرأة والقوة التي يتمتعن بها، فجميع هؤلاء النساء على رغم أن لكل واحدة منهن حكايتها الخاصة، كن يتمتعن بعيون تفيض تحدي واصرار، وابتسامة أمل لم تمحوها قسوة الحياة القروية، ولا حتى ارهاب الاحتلال.
كان فيهن من البساطة والعفوية ما يأسر قلبك بخزاعة وبناتها، لا يعرفن للكلفة طريقاً، يرحبن بك ببشاشة وكأنهن يعرفنك منذ الخليقة، يشرحن عن أنفسهن باستفاضة وبلا تكلف أو دوران.
يملكن وعي، وجرأة فطرية، لم تلوثها بعد شهوات العصر ومتطلباته، قانعات، راضيات، لا يطمحهن الا لـ"الستر"، الستر المادي، والستر العاطفي..لقمة هنية، وعيشة رضية.
وعلى رغم أن أراضي خزاعة في معظمها ملك لعائلات قديح ، والنجار ، وأبو ريدة ، والقرا الا أن غالبيتهم يعيشون حياة بسيطة تعتمد في استمراريتها على الزراعة، فهم يعتبرون أن الأرض والعرض خطين أحمرين لا يمكن الاقتراب أو التنازل عنهما، على رغم أن قدرة الزراعة على تأمين دخل ثابت للمزارعين تضاءلت بفعل الاعتداءات الصهيونية المتكررة، والحصار المستمر على القطاع منذ أكثر من خمسة سنوات.
وإطلالة سريعة على ما تملك معظم العائلات هناك من أطيان زراعية يدلل أن سكان خزاعة والمناطق الشرقية قادرين على الحياة بترف ان ارادوا، لكنهم فضلوا الفقر والعوز على التفريط بالأرض والقمح والزيتون.
لماذا أكتب عن خزاعة بالذات، فكل ما ذكرت صفات وأوضاع تنطبق على قرى عدة بالقطاع؟ صحيح لكن خزاعة في نظري كانت مختلفة، مختلفة بجمالها، بقوة نساءها، بجرأة أطفالها، بحرارة عواطف ناسها، بقدرتهم على الصمود في مكان مستهدف في كل لحظة..خزاعة تستحق أن نراها، نزورها، نكتب عنها بطريقة لا تخدش براءتها، وعفتها، وروعتها..لا تنتهك حقها في ممارسة الحياة بصمت.
* هذه الزيارة في إطار تقرير موسع أعددته لمجلة ينابيع حول واقع المزارعات في المناطق الحدودية، والتقرير الموسع الذي يتناول المزارعات في خزاعة وبيت لاهيا كنموذج سينشر في العدد الجديد من ينابيع، الصور توثق الزيارة لخزاعة فقط من تصوير المبدع الشاب ابراهيم أبو ريدة.
16/5/2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق