السبت، 30 أغسطس 2014

نساء فلسطينيات زمن الحرب...موت، وتشريد...وأوجاع اضافية


غزة- سامية الزبيدي
في مساحة لا تزيد عن المترين المربعين، وقفت تغريد أبو العطا وبناتها الأربع، يظللها أغطية نصبها زوجها، مستنداً إلى حائط قسم الباطنة في مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة، تصف حالها: "حالنا على الله".
فبعد أن فرت تغريد (40 عاما) وبناتها وأبناءها الثلاثة من شبح الموت الذي مثل أمامهم في حي الشجاعية الذي تعرض لمجرزة بشعة من قبل طائرات ودبابات الاحتلال الاسرائيلي التي قتلت أكثر من 70 روحاً فلسطينية في 19 من تموز الماضي.
وصلت تغريد تحت جنح الظلام الى مستشفى الشفاء، مع آلاف النازحين الآخرين، الذين لم يجدوا لهم متسعاً في مراكز الايواء التي امتلأت عن آخرها بالنازحين من مختلف المناطق.


ومنذ ذلك الوقت، باتت تغريد وعائلتها ليلها، وأمضت نهارها، في ظروف أقل ما يمكن وصفها بـ"اللا انسانية" و"غير المحتملة".
"مثلما تشاهدين، طوال النهار بكامل ملابسنا في هذا الحر الشديد، فيما أنا وبناتي في هذه المساحة الصغيرة، وينام زوجي وأولادي الذكور في العراء".
وتضيف: "خرجنا من منازلنا بملابسنا، وبفضل أهل الخير الذين تبرعوا لنا ببعض الفرشات، والملابس نمضي أيامنا هنا، لكن الحياة صعبة جداً، ولا يبدو أنها ستغدو أفضل في القريب العاجل".
أما ابنتها اسراء (17 عاما) فتقول: "هنا لا يوجد حياة، المياه مالحة، والحمامات قذرة، ولا يوجد لي ملابس، أنام وأصحو في ملابسي هذه نفسها..لا يوجد راحة بالمرة".
في الثاني عشر من يونيو الماضي، قرعت دولة الاحتلال الاسرائيلية طبول الحرب ضد الشعب الفلسطيني على مسمع من العالم أجمع بعد زعمها وقوف جهات فلسطينية خلف خطف ثلاثة مستوطنين بالقرب من الخليل بالضفة الفلسطينية.
تدحرجت على إثرها كرة الاعتداءات الاسرائيلية اللا منتهية حتى وصلت الى قطاع غزة، لتندلع الحرب الأشرس على سكان القطاع المحاصر منذ ثماني سنوات.
وقتلت مروحيات الاحتلال ودباباته وبارجاته الحربية حوالي ألفين انسان، وجرحت أكثر من عشرة آلاف وشردت ربع مليون آخرين بعد أن دمرت أحياءهم السكنية بالكامل.
من بين هذا الواقع الدامي، تنخرط المرأة الفلسطينية كعادتها في الفعل ورد الفعل، فتقاوم بصمودها، وعملها الدءوب داخل أسرتها لتوفير احتياجاتهم وتطبيب جراحهم، وخارجها بممارسة عملها في المحافل المختلفة، في الطب، كما الصحافة، في القانون كما الأمن.
وسقط في العدوان على قطاع غزة حتى اعلان ما يسمى بوقف اطلاق النار برعاية مصرية 243 امرأة من حوالي 1868 شهيد، فيما جرحت 1853 امرأة  من ما يقرب العشرة آلاف جريح.
ما يعني أن هناك مئات الاسر فقدت عمودها الفقري باستشهاد الأم أو الزوجة أو الاخت، فيما اصيبت مئات أخريات بتشوهات أو بتر أطراف أو حروق، ستحرمهن من استكمال حياتهن الطبيعية.
زكية ، شابة فلسطينية تعمل في قسم الاستقبال بمجمع الشفاء الطبي الرئيس في القطاع، الذي استقبل طوال ايام العدوان آلاف من الجثامين والجرحى.
ورغم عملها في المكان نفسه ابان العدوان السابق على القطاع في العام 2012 الا أنها تصر على أنها لم تشهد مثل هذا العدوان وجرائمه.
وتقول: الاصابات كثيرة، مجازر، عائلات باكملها ابيدت، وتشوهات كبيرة في الجثث، علاوة على ان ثلاثة أرباع المصابين الذين رأيتهم مصابين ببتر في أطرافهم أو جروح خطيرة في رؤوسهم".
ومن أكثر المشاهد صعوبة تقول زكية: عندما انهارت امرأة من فرط جزعها وحيرتها، وأخذت تبكي وتصرخ: هل تغادر المستشفى لتودع ابنتها الشهيدة، أم تلزم غرفة العمليات الجراحية في انتظار ابنتها المصابة بجروح خطيرة".
وتضيف زكية: كلما دوت صافرات سيارات الاسعاف المقتربة من قسم الاستقبال أجزع خوفاً ان تحمل لي أحد أقاربي أو أحبائي شهيداً أو مصاباً".
وتستذكر زكية كيف فوجئ المسعف خليل اليازجي بمقتل كل عائلته في قصف طال منزلهم، ليبق هو يتجرع حسرتهم وخسارته الفادحة وحده.
فتحية ادباري (45عاما) التي نجت وعائلتها المكونة من أحد عشر روحاً بأعجوبة كما تقول، لم تستكن لواقعها الجديد المزري بعد لجوءها لاحدى مدارس "أونروا" في مخيم رفح.
فبعد أن فرت فتحية وأولادها وزوجها وأشقاءه وأولادهم الذين يفوق عددهم الأربعين انساناً قرية الشوكة شرق محافظة رفح جنوب قطاع غزة، رفضت الاستسلام وحال الانتظار لمن يساعدهم.
تقول فتحية: "خرجنا من منازلنا تحت شظايا القذائف التي تناثرت في كل مكان، ووصلنا أنا وأطفالي حفاة، لا نمتلك الا ما نرتدي من ملابس".
وفي المدرسة التي وصلت إليها فتحية مع آلاف النازحين من منازلهم المدمرة، حاولت الاستعاضة عن اتساع منزلها بربع صف مدرسي خصص لها ولثلاث عائلات آخرى، في محاولة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من النازحين التي وصلت الى أكثر من 300 ألف فلسطيني في مخيمات ومدن القطاع الصغير.
وعكفت فتحية الناجية من الموت والدمار على التكيف مع واقع الحياة المشتركة في ظل غياب الخصوصية والحياة الطبيعية فشكلت فريقا من سبعة نساء لتحسين شروط اللجوء الجديدة.
وعمل الفريق على توعية النساء من المخاطر البيئية والصحية المحدقة بهم في ظل الاكتظاظ والحرارة الشديدة وغياب متطلبات الصحة والنظافة العامة، وعلاوة على حملات التوعية اجتهدت فتحية وفريقها في شكل طوعي لتنظيف المرافق الصحية للمدرسة.
ولوجدان ابو شمالة (34عاما) وضع خاص، فهذا هو العدوان الأول الذي تعايشه وأولادها الثلاثة مريم (6أعوام)، ورامي (4 أعوام)، وحسن (عامين) بعد عودتهم من ألمانيا بصحبة زوجها للعيش في خانيونس جنوب قطاع غزة.
وتعتبر وجدان ان أصعب مهمة يمكن أن تضطلع بها امرأة هي أن تكون أم تحت الحرب.
فمع بدء الحرب توالت أسئلة أطفالها عما يحدث وعما اذا كانوا سيقتلون؟
اسئلة زلزلت كيان وجدان، ودفعتها للتعبير عنها في مقالة مطولة نشرتها صحيفة الواشنطن بوست الاميركية باللغة الانجليزية التي تجيدها.
"كنت كالمجنونة احياناً أضع أولادي في غرفة واحدة تحت حمايتي وانا لا أعرف ما هي الحماية التي يمكن أن أقدمها لهم في مواجهة صاروخ F16 أو قذيفة دبابة، وأحياناً كنت أحملهم بعد أن يستغرقوا في النوم وأفرق كل واحد منهم في زاوية من زوايا المنزل التي أتوقع أنها قد تكون أكثر أمناً من غيرها وأنا أفكر أنه لو لا سمح الله خسرت أحداً منهم، أحافظ على حياة الآخر".
وتستغرق وجدان التفكير بحال "امرأة تبحث عن جثمان زوجها أو ابنها أو اخيها أو ابيها لأيام تحت الانقاض، وبأخرى تنتظر خبر عن زوجها أو منه".
وتضيف: "أرى وجوه النساء حولي كل يوم يكبرن عشرات السنوات، وحتى طقوس الموت ترف لم نعد نستطيع ممارسته، فقبلة الوداع حجبتها كمامة، وغاب الحضن الاخير بعد أن تحللت جثث كثير من الاحبة أو تقطعت أشلاء، أو تفحمت من حمم الصواريخ والقذائف، وانبعثت منها روائح الموت الكريهة".
الدكتورة سوسن حماد، مسؤولة دائرة صحة المرأة بوزارة الصحة تصف أوضاع المرأة الفلسطينية في الحرب بالكارثية.
وتلفت الى أن عيادات ومستشفيات الوزارة حرصت على الاستمرار في تقديم خدماتها الطبية للنساء والحوامل على رغم قصف طائرات الاحتلال ومدفعيتها لعدد من المراكز والمستشفيات في القطاع.
ومن أصل 27 مركز رعاية صحية للمرأة ظل 12 مركز فقط مؤهل لتقديم خدمات رعاية الحوامل وتنظيم الاسرة.
وتعتبر د. سوسن ان متابعة الحوامل أو تنظيم الاسرة مهمة طبية ضرورية لا يمكن ايقافها حتى زمن الحرب، الامر الذي يمكن أن يهدد صحة المرأة ويسبب لها مضاعفات صحية خطيرة.
ونوهت الى أنه من المعروف ان حال الاضراب النفسي التي تسببها الحرب تخلق اضطرابات في الهرومونات لدى المرأة وهو ما يتسبب في ارتفاع معدلات الاجهاض، والولادات المبكرة، والنزيف، وانقطاع الدورة الشهرية وغيرها.
ورغم عدم وجود احصاءات دقيقة بعد لدى الوزارة الا أن حماد أقرت أن هناك زيادة ملحوظة في أعداد الولادات المبكرة، والاجهاض.
يذكر أن متوسط عدد الولادات في مستشفى الشفاء وحده في الايام الطبيعية يتراوح بين 50-70 حالة ولادة، ما يعني أن هناك على الاقل 1500 الى 2100 طفل ولدوا في محافظة غزة تحت القصف والدمار، علاوة على ضعف الامكانات والاهتمام برعاية النساء والوالدات.
وتقول د.حماد أن الضغط الذي تشهده المستشفيات نتيجة الاعداد الكبيرة من المصابين والجرحى اضطر الاطقم الطبية لتسريح الوالدات في شكل طبيعي بعد ساعة من الولادة، رغم أن معايير السلامة تقتضي مكوثها في المستشفى لست ساعات على الاقل، وتسريح الوالدات قيصريا بعد 12 ساعة على رغم أن مكوثها ل6 أيام على الاقل في المشفى مهم لصحتها وصحة طفلها.
ولفتت د. حماد الى خطر آخر يحدق بالنساء والاطفال نتيجة الاعداد الكبيرة من النازحين الذين تهدمت منازلهم واستحالت الحياة فيها تحت القصف الاسرائيلي فنزحوا الى المدارس والمستشفيات والحدائق العامة أو الى منازل ومحال لا تتوفر فيها شروط السكن الصحية، ويتمثل هذا الخطر في انتشار الاوبئة والامراض التي تحاول دائرة الطب الوقائي محاصرتها اولا باول من خلال تطعيم الاطفال ومنع انتشار الاوبئة.
وفي وقت رفض فيه  المستشار الإعلامي لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" عدنان أبو حسنة الحديث عن أي احصاءات حول عمليات التقييم التي شرعت بها "أونروا" لتقدير الاحتياجات المترتبة على نزوح أكثر من 222 الف نازح في أكثر من 90 مدرسة تابعة لها.
فإن  وزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية قدرت عدد المنازل المدمرة كلياً بحوالي 12 ألف وحدة سكنية، والمدمرة في شكل جزئي بحوالي 32 ألف وحدة أخرى.
وقال ابو حسنة أن اونروا تحتاج الى اسبوع على الاقل حتى يكتمل لديها تصور واضح عن الاحتياجات المقبلة.
ولفت الى أن الوكالة تقدم للنازحين علاوة على الطعام والشراب ومستلزمات معيشية اخرى الدعم النفسي الذي يركز على النساء والاطفال على يد أكثر من مئة مختص وعدد آخر من المتطوعين لمساعدة الناس على مواجهة الضغوط النفسية التي تواجههم في هذه الظروف.
وبدت هبة الزيان  ممثلة صندوق الأمم المتحدة للمرأة مهمومة في كيفية ضمان تمثيل عادل للنساء في لجان الاغاثة وخططها وبرامجها، خصوصا انها تستهدف النازحين والمتضررين والمصابين الذين تقدر الاطراف المختلفة أن جلهم من النساء والاطفال.
وتقول: "نحن لا نقدم خدمات مباشرة للنساء، بل نعمل على تحسين شروط الدعم الانساني المقدم من قبل شركاءنا في شكل يضمن تلبية احتياجات النساء".
وتلفت الى انهم نجحوا في تحسين ظروف البنية الصحية في مراكز الايواء وتطبيق الفصل بين الجنسين في شكل يراعي الكرامة والخصوصية لدى الطرفين".
وقطعت الزيان شوط متواضع على صعيد توفير معدات الطبخ للنساء النازحات.
وحذرت من ظواهر سلبية مرتبطة بهذا الحال الصعب، مثل العنف المنزلي والتحرش الجنسي.
وتشعر الزيان بقلق بالغ ازاء استمرار اعتبار أطراف تقديم المساعدة لهذه الظواهر بالكمالية في ضوء انكشاف هؤلاء النساء بشكل عام على الصعيد الغذائي والصحي والامني..الخ.
وتقدر الزيان حجم الكارثة وقلة الموارد الا انها تصر على ان تقديم الدعم النفسي والاجتماعي عنصر مهم جدا للتقليل من تداعياتها.
وتلفت الى ان الصندوق يعمل على دراسة اثر الازمة، وتحديد الاحتياجات اللازمة للتخفيف من حدتها الا ان ذلك سيتطلب وقت بعد توقف الحرب على غزة.
وتوقعت ان الحديث عن اعادة الاعمار سيتطلب اشهر طويلة وربما سنوات لازالة المواد المتفجرة من وسط الاحياء السكنية وازالة الانقاض واعادة البناء، في وقت لا يجد فيه مئات الآلاف من المواطنين مكانا يأويهم وأطفالهم سوى مدارس تحولت لمراكز ايواء فيما السنة الدراسية على الابواب وهو ما سيشكل عبء اضافي على المتدخلين للتخفيف من هذه الأزمة في حال توقف العدوان..وبطبيعة الحال عبء أكبر على النساء اللواتي يقع عليهن واجب تأمين حاجات اسرهن وحماية أطفالهن.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق