الأحد، 4 مايو 2014

رحلتي إلى جنوب أفريقيا: حكاية متشابهة لكن مختلفة

سامية الزبيدي

اتجهت بي سيارة حديثة في شوارع العاصمة الاقتصادية للدولة الجنوب افريقية من مطار جوهانسبرغ إلى فندق "بيرغرس بارك"، وسط بريتوريا حيث العاصمة السياسية والإدارية للدولة، حيث كان قائد السيارة يقودها بسرعة وثبات واضحين، لكنني أحسست بأنه سيقتلنا مرات عدة، حدثت نفسي: "هل قدر الله لي أن أقطع نصف العالم كي أموت هنا؟ وأنا القادمة من بلاد الموت بأشكاله المتعددة؟".

لم أستطع فهم سبب إحساسي الخاطئ سريعاً: ربما لأنهم يقودون على الجانب الأيسر من الطريق؟!!!.

ليس في هذا وحده يختلف الجنوب أفريقيون، فطريقهم للتحرر من نير العبودية والتمييز العنصري كان أيضا مختلفاً، كما حرصهم على تاريخهم وتراثهم ودورهم داخل بلدهم وخارجها .

فكرت بيني وبين نفسي، وقلت: كأنهم يستخدمون الجزء الآخر من الدماغ الذي نملكه جميعاً، لذلك لا يسلكون الطريق نفسه...

ورغم دحض العلم نفسه فكرتي بإثبات أن تكوين الدماغ واحد.

فإنني وجدت نفسي أقارن بين القيادة في شوارع قطاع غزة المنهكة تدميراً وإهمالا، وأزقة مخيماته المتزايدة ضيقاً وسواداً، والقيادة هنا في بريتوريا بشوارعها الفسيحة، الجميلة، وارفة الأشجار والأزهار. وبين الخط السياسي الذي سلكته قيادة القضية الفلسطينية منذ تشكلها في مواجهة آخر احتلال عنصري في العالم، وذلك الذي انتهجته قيادة الجنوب إفريقيين بقيادة الراحل نيلسون مانديلا في مواجهة نظام تفرقة عنصرية مشابه، رسخته عقود طويلة من التمييز القانوني والاجتماعي وحتى الجغرافي بين السود (الأكثرية) والبيض (الأقلية). 

ففي الوقت الذي صمدت فيه قيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي موزعة بين "نيلسون مانديلا" في سجني بولسمور وسجن فيكتور فيرستر في جزيرة روبن آيلاند، اللذين سجن فيهما مانديلا لـ 27 عاما، وبين قيادة الحزب في المنفى بقيادة أوليفر تامبو، وتامبو بيكي، وعزيز بهاد، وجاد برومو حول موقف واحد رغم أن خطّا المفاوضات كانا سريّان ومتوازيان، لا يعلم المسجون عن مفاوضات المنفي شيء والعكس.

فإن قيادة منظمة التحرير أرسلت فريقاً تفاوضياً للعاصمة الاسبانية "مدريد" لإجراء محادثات سلام وفق قرارات مجلس الأمن 242، و338، و425 وبرعاية قطبي العالم آنذاك الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فيما كان فريقاً آخر يفاوض الاحتلال سراً في العاصمة النرويجية "أوسلو" برعاية أميركية منفردة على محددات اتفاق آخر، قال فيه المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد: "منظمة التحرير الفلسطينية حولت نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة".

وبعد نحو عقد من المفاوضات، استمر خلالها نضال الشعب الجنوب إفريقي في مواجهة بطش وصلف نظام الفصل العنصري الذي جوبه بإدانة دولية، اقترنت لاحقاً بحملة مقاطعة واسعة لهذا النظام ورموزه، تكللت المفاوضات باتفاقية إرساء الديمقراطية في جنوب أفريقيا (كوديسا)...ناضل مانديلا بعد تحرره من أجل توحيد وبناء حزبه (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي) ومن أجل إقناعهم بطريق المفاوضات وقبول الحل السلمي، رافضاً أي حل يقضي بتقسيم بلاده، أو نظاما اتحاديا برئاسة دورية، مصراً على دولة واحدة بحكم الأغلبية، وهو ما كان له.

في 1993 وقعت قيادة منظمة التحرير اتفاقاً شق صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، ومنظمة التحرير نفسها في واشنطن..أنشئ على إثره سلطة حكم ذاتي على أقل من 22% من أرض فلسطين التاريخية (الضفة الغربية وقطاع غزة).

وفيما واجهت "أمة قوس قزح" كما سماها مانديلا مشكلاتها بالمصارحة والمصالحة الوطنية، وبإجراءات سياسية ومجتمعية واقتصادية تدريجية لإزالة آثار الفصل العنصري، وضمان العدالة واحترام التعددية لسكان هذه الدولة الإفريقية الصاعدة.

حرصت القيادة الفلسطينية على الاستمرار في الهروب من التاريخ، الذي لم يحظ بمراجعة جماعية فلسطينية حتى الآن، فصادرت القرار الفلسطيني واحتكرته، ووفرت بيئة خصبة جداً لتصاعد الفساد والإفساد الذي أسس لمرحلة لا تريد أن تنتهي من التشظي والانقسام.

كحال القيادة، وهروباً من التاريخ، أعود إلى واقع البنية التحتية التي لفتت نظري في الجمهورية الماسية.

شبكة طرق منظمة ومترابطة بانسياب لا مكان فيه للعشوائية، مرتبطة بأنظمة مراقبة الكترونية لحركة السير وتسجيل مخالفيها من ناحية، ولاقتطاع رسم مالي ثابت على كل عربة تستخدم الطريق السريع، تتضاعف كلما طال من ناحية ثانية، لتشكل احد أورد الجباية الرئيسة لحكومة الجمهورية الجنوب افريقية، التي تعتمد على الضرائب في دخلها.

معظم هذه الطرق، اتخذت هذه المعالم، بعد أن أصبحت البلاد مفتوحة أمام كل أبنائها، وأكثر إبان استعدادات جنوب أفريقيا لاستضافة كأس العالم في العام 2010، وارتبطت ببنية تحتية قوية، وضعت لتعمر أجزاء من هذه البلاد الشاسعة، التي لا يتجاوز عدد سكانها 55 مليون نسمة، ينتشرون في جزء من مساحاتها الخضراء التي لا تنقطع والتي تقدر بمليون وثلث المليون كيلو متر مربع تقريباً.

في غزة، التي لا تتجاوز مساحتها 360 كيلو متر مربع، ويقطنها أكثر من مليون و700 ألف نسمة بحسب آخر إحصاء رسمي، تجري أعمال ليست مشابهة، لتوسعة الشارع الرئيس الذي يربط جنوب قطاع غزة بوسطه وشماله، بعرض يسمح بحركة ثمان مركبات ذهاباً وإياباً في الوقت نفسه، مزودة بشبكة إضاءة وتشجير ضخمة، تسمح بتظهير الانجاز العظيم، الذي يأتي بدعم قطري يتوقف سخاءه على الشكليات، ويتجاهل بحسب مخططات المشروع التأسيس لبنية تحتية قابلة للاستمرار.

أما في الوطن عموماً، فينهب الكيان المحتل أكثر من 80 % من الأرض الخضراء المزهرة لفلسطين التي تتجاوز مساحتها 27 ألف كيلو متر مربع، ويُقطع ما تبقى منها إلى كنتونات في الضفة الغربية والقدس، ويفصل بينها بأحدث جدار فصل عنصري خرساني في العالم، وعشرات الحواجز التي تعيق أو تمنع تنقل الفلسطينيين وتذلهم في أرضهم.

كما ينتهز في كل فرصة ممكنة، الزمان والمكان اللذان يرتئيهما، ليعيث بآلته العسكرية الجبارة الخراب في كل منجز بشري أو طبيعي.

تبدو الهوة ساحقة، رغم أن ما يجمعنا الكثير، فهناك أحياء بكاملها لا تزال بدون كهرباء أو شبكة خدمات تحتية لائقة في جنوب إفريقيا، كما أن نسبة البطالة وصلت إلى 24%، والفقر وصل إلى 26% رغم أن هناك شبكة ضمان اجتماعي يستفيد منها ملايين المواطنين، إلا أن هذه الحال تصاعد السجال الانتخابي أمام الائتلاف الحكومي الحاكم، الذي يتهمه منافسوه بالتورط في أعمال فساد وسوء الإدارة، والذي تقبل عليه الجمهورية خلال الأسابيع القادمة.

ورغم هذه الإخفاقات للدولة الخارجة من قرون من التمييز العنصري، واستمرار احتكار خيرات البلاد من قبل الأقلية البيضاء، إلا أنها تختزن في داخلها الكثير من عوامل القوة والرؤية التي عبر عنها الرئيس الجنوب أفريقي جاكوب زوما بتبنيه شعار "التحول الديمقراطي 2" لحملته الانتخابية الحالية.

فلسطينياً، لازالت القيادة متمترسة بحل الدولتين، والمفاوضات خياراً، مهملة ومضيقة المسالك أمام كل الطرق الأخرى.

داخلياً، تشتت الحال، وانحصر الحلم، في وحدة سياسية، وانتخابات تحت مظلة الاحتلال، فيما لا يزال الناس يرزحون تحت الاحتلال والحصار والفقر والبطالة وقطع الكهرباء، وتلوث المياه، وانهيار البنى التحتية، ناهيك عن التعدي على الحريات العامة والخاصة، والأهم من ذلك كله الإيغال في تسعير الغليان المجتمعي الذي ولده الاقتتال الداخلي ورعاه الانقسام الذي يستمر منذ ثمان سنوات رغم كل وعود المصالحة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق