الأربعاء، 28 مايو 2014

رحلتي إلى جنوب أفريقيا: أصدقاء وأعداء

سامية الزبيدي

-السفارة في العمارة-

حالها، حال كل المنشآت هناك، كانت مسيجة ومزودة بنظام حماية كهربائي، اتقاءً لخطر السطو والسرقات المنتشرة هناك.

على بابها نصبت يافطة صغيرة "سفارة فلسطين" باللغتين العربية والانجليزية، والى جوارها صورة ملونة للراحلين ياسر عرفات، ونيلسون مانديلا في لحظة حميمة، جمعت أكثر من قائدين لشعبين، بل صاحبي قضية واحدة..مناضلان من أجل الحرية.


وبين جنبات حديقتها الصغيرة، التي تحتل باحة مبنى السفارة المتواضع، في بريتوريا، العاصمة السياسية والإدارية لجمهورية جنوب أفريقيا، تبزغ أنواع معدودة من الأزهار، لم يكن يعيرها العابرون أي اهتمام، في مكان تحتل فيه الطبيعة وجمالياتها كل الأماكن.

في صبيحة اليوم الثاني لوصولي إلى هناك، إثر دعوة من السفارة نفسها، وفي نفسي توقع لمشهد آخر، غير هذا المبنى الصغير، المتواضع، الذين يزين مدخله الضيق صورتين، للرئيس الأسبق تامبو مبيكي، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، قبل أن تنقسم الردهة الداخلية بين سكرتيرة جنوب افريقية من أصول غربية، ومساعد إداري جنوب أفريقي من أصول هندية.

إلى اليسار منهما، أربع غرف أخرى، يتراوح عرضها بين المترين والثلاثة، ويعمل من خلف مكاتب متواضعة فيها، أربعة شبان فلسطينيين بجد ومثابرة لا تنقطع.

وعلى الجهة الأخرى، قاعة اجتماعات، تأخذك إلى مكتب السفير الفلسطيني في لؤلؤة المحيطين، وأهم الدول الأفريقية.

مكتب السفير عبد الحفيظ نوفل، وقاعة اجتماعاته، كانا الشيئين الوحيدين اللذين قاربا بعض ما توقعته. فهما الغرفتان الفسيحتان في المكان، اللتان بدا عليهما بعض الفخامة بأثاثهما الحديث من دون أي تكلف أو إسراف ملحوظ.

بعد أقل من سبعة أشهر، على وصوله إلى جنوب أفريقيا، لم يبد أن همة السفير نوفل، أو دافعيته للعمل، وجدت طريقها إلى الروتين وإخفاقاته.

فكانت لقاءاته، واتصالاته، لا تتوقف، ومعه فريق متناغم إلى حد كبير، لا وقت كثير لديهم لرفاهية الكسل أو التهرب المبكر من العمل، وأمامهم مهمات ثقيلة لإعادة رسم دور "السفارة في العمارة" بما يحقق أعلى انسجام مع داعمي الشعب الفلسطيني الذين يجتهدون لمقاطعة دولة الاحتلال وعزلها (خلافاً لموقف السلطة الفلسطينية)، ويعزز العلاقات الرسمية والشعبية مع بلد استثنائي، يفتح أمامهم أبواباً لا تكاد تنته من التعاون والتبادل والدعم على الصعد المختلفة.

فريق السفارة، يعمل في بيئة ذات حدين، فبالقدر الذي تناصر فيه دولة جنوب أفريقيا القضية الفلسطينية ما يجعلها دولة صديقة، ويوفر لهم بيئة مريحة للعمل، إلا أن ذلك يفرض عليهم أدواراً أكبر وأوسع على صعيد تحويل هذا التأييد إلى إجراءات ومواقف على الأرض. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا زال يتوجب على الفلسطيني الحصول على تأشيرة لدخولها، فيما يمكن لـ"الإسرائيلي" أن يزورها في أي وقت من دون الحصول على تأشيرة دخول.



-أصدقاء وأعداء-

في هذه الدولة، بمقاطعاتها الشاسعة، لا يزيد عدد الفلسطينيين في جنوب أفريقيا عن بضع مئات، لم يستطيعوا تشكيل أي قوة تذكر على صعيد رسم المشهد مع الدولة الأفريقية، فهم متناثرون في مقاطعات ومدن مختلفة في دولة مترامية الأطراف، ومنشغلون في تحصيل رزقهم، ومعظمهم من حملة الشهادات وأصحاب المهن.

د. عبد الباسط خلف، مستشار لوزير الصحة في جنوب أفريقيا لشؤون التقنيات الطبية، ومحاضر في جامعة "ايشوانا" في بريتوريا، حاصل على درجتي دكتوراة في الهندسة الطبية، يشكل وزوجته عروبة جبر نموذجاً معقولاً للفلسطينيين المأخوذين بسحر البلاد وآفاق العمل اللا متناهية فيها، من دون أن ينسيهما ذلك قضيتهما، وهموم شعبهما، فيلبيا النداء كلما دعتهما الحاجة.

ففي وقت العدوان على قطاع غزة في نهاية العام  2008 لم يستطع خلف - الذي ذاق مرارة عدوان الاحتلال وشراسته وهو ابن مخيم البريج وسط القطاع، والمعتقل المحرر- الاكتفاء بمشاهدة ما يجري لأهله وناسه من خلف شاشة التلفاز الصماء، فكوّن مع اثنين وأربعين طبيباً وممرضاً وصحافياً وفداً، وناضل مطولا لإيصاله إلى غزة، حاملين معهم معدات وخبرات طبية ومساعدات إنسانية.

ويبدو سر حضور قضيتنا التي ترتبط بتاريخ مشترك مع هذا الشعب، ذو علاقة أصيلة بتواجد المسلمين الذين يشكلون نحو مليون نسمة من سكان الجمهورية البالغ عددها 55 مليون نسمة، وينحدر معظمهم من شبه القارة الهندية، وجنوب شرق آسيا بشكل أقل.

ويقف هؤلاء خلف الكثير من اللجان المنبثقة من اتجاهات عدة، لدعم القضية الفلسطينية، كل من خلال فهمه السياسي لها، وموقفه من أسلوب حلها. علاوة على أدوار متفاوتة لجهات حزبية ونقابية ويسارية وشيوعية ويهودية داعمة للشعب الفلسطيني..جاءت حملة مقاطعة "اسرائيل" وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها (BDS) لتجمعهم جميعاً وتنظم جهدهم.

ولا يبدو هؤلاء هم اللاعبون الوحيدون في المشهد الجنوب أفريقي، ففي المقابل، هناك جالية يهودية كبيرة وقوية ومنظمة، صاحبة نفوذ قوي في ميداني الاقتصاد والإعلام.

وعلى رغم وجود عدد من هؤلاء من المناصرين المتعصبين للحق الفلسطيني، إلا أن غالبيتهم "صهاينة" يدعمون "إسرائيل" بالمال والعيال.

فمن بين أكثر من 120 ألف يهودي، قطنوا جنوب أفريقيا زمن الفصل العنصري، اختار نحو خمسين ألفاً منهم الهجرة إلى "إسرائيل" أو أميركا أو استراليا، وظل معظم الباقين يمدون الكيان المحتل بالمال والدعم بكل أشكاله. لذا فإن هؤلاء ومن خلفهم سفارة الاحتلال في جنوب أفريقيا لا يكلون ولا يملون من حفر الطرق نحو إعادة أمجادهم لدى سدنة الحكم.

ففي زمن الابارتهايد، كان للصهاينة، عزهم، حتى أن بعض المؤرخين، والمتابعين، يرجع كثير من ممارسات الفصل والتمييز العنصري التي مورست في ذاك الزمن إلى العقلية الصهيونية، صاحبة هذا النهج الذي مارسوه منذ فجر التاريخ، وتغولوا فيه في نهاياته، خصوصا مع ما يمارسونه تجاه الشعب الفلسطيني من حملات تطهير عرقي، ومجازر جماعية، واعتقال وتعذيب، وإحلال وتهجير، وتهويد واستيطان..وليس آخره الفصل العنصري بجدارهم وبجملة من القوانين والممارسات اللا إنسانية.


إلا أن سني سعدهم وحظهم، تراجعت إلى حد ملحوظ بعد انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وتولي السود بقيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ANC سدة الحكم، والذي ربطته مع منظمة التحرير علاقات تاريخية وثيقة، أرخت بظلالها على موقف هذه الدولة الديموقراطية الحديثة، فحرصت على تقديم كل الدعم السياسي للفلسطينيين، ولسان حالهم يقول: "قرروا ماذا تريدون، ونحن معكم، ندعمكم؟"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق